علي مدي التاريخ سوف تظل البشرية تتعلم من قيم الإسلام التي أرست أسمي العلاقات الإنسانية فيما بين الناس بعضهم ببعض وتجعل المجتمع قويا مترابطا لكل فرد حقوقه وحريته في إطار الحكمة القائلة "لا ضرر ولا ضرار" ولذلك كان المجتمع المسلم - الذي أسسه رسول الله - صلي الله عليه وسلم - علي التقوي ومكارم الأخلاق - قويا متماسكا نموذجا وقدوة لسائر المجتمعات الأخري. والواقعة التي نتعرض لها في هذه السطور تدور حول واحدة من أهل الإيمان في حوارها مع سيد الخلق محمد - صلي الله علي وسلم - ومن المبهر أن هذا الحوار اتسم بالمصارحة والشفافية والمعرفة التامة لحقوق الفرد وكذلك حقوق الأطراف الأخري سواء كان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أو ولي الأمر فكل حقوق لا تطغي إحداها علي الأخري. والواقعة التي نحن بصددها تتعلق بواحدة من أهل الإيمان ورغم أنها مولاة - عبدة - لا تملك حريتها إلا أن الإسلام استقر في وجدانها وتعرف شئون دينها وعلاقتها مع الآخرين وتلك طبيعة المسلم الحق. هذه السيدة اسمها بريرة مولاة السيدة عائشة - رضي الله عنها - وقد اشترتها من هؤلاء الذين كانوا يمتلكونها.. وقبل عملية الشراء اشترط هؤلاء ولاة بريرة أن يظل الولاء لهم وثار جدال حول هل من حق هؤلاء البيع علي أن تظل الولاية علي "بريرة" لهم أم بمجرد البيع فلا ولاية لهم؟ وأمام هذا الجدال قام الجميع بعرض الأمر علي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقام بحسم الأمر حيث قال: "الولاء لمن أعطي الثمن" أو لمن ولي "النعمة" بمعني أن من دفع ثمن الشراء هو صاحب الولاء وله كامل الحقوق في الإبقاء علي الولاية - الملكية - أو التنازل بمعني العتق لوجه الله تعالي. بريرة هذه نالت حريتها علي يد السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بريرة كانت زوجة لرجل يدعي مغيث وكان هو الآخر عبدا. لكنه كان يهيم حبا بزوجته بريرة ورغم هذا الحب الذي طير عقل مغيث إلا أن بريرة كانت فراقة ومع كل هذا فإن هذا الزوج المولع حبا بزوجته كان يمشي في طرقات المدينةالمنورة يبكي مما دفع الناس للإشفاق عليه ووسط هذا الحنين وذلك البكاء توجه "مغيث" إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لكي يستشفع به لدي بريرة لعلها تتراجع عن رأيها كي تعود العلاقات بينهما وكي يطمئن قلب هذا المحب الولهان. وقد قبل سيد الخلق - صلي الله عليه وسلم - أن يشفع لدي بريرة. وتوجه الرسول - صلي الله عليه وسلم - إلي بريرة. وهنا يجب أن نتوقف ونتأمل مليا مدي تمكن أهل الإيمان من معرفة الحقوق والتفرقة بين الأمر والشفاعة. مع حفظ كامل التقدير لمن جاء يستشفع. وقد دار الحوار كالتالي: الرسول قال معناه: بريرة زوجك جاء يريد عودتك فما رأيك؟ علينا أن نتأمل الإجابة جيدا.. بريرة تجيب بكل التقدير والمحبة لسيد الخلق - صلي الله عليه وسلم - يا رسول الله أتأمر؟ قال: لا بل أشفع. قالت: لا أريده. بكل صراحة لقد عرفت هذه السيدة المؤمنة الحقيقة وأنها تدرك أن الرسول إذا أمر فأمره مطاع أما إذا استشفع فلها كامل الحرية في الإفصاح عن رأيها وتلك هي سمات أهل الإيمان يعرفون حقوقهم والواجبات عليهم ولذلك أقرها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وفرق بينها وبين زوجها. مضت الأيام وأطال الله عمر بريرة حتي عهد عبدالملك بن مروان ومما يروي عنه أنه كان يجالس بريرة في المدينة. فكانت تقول له: يا عبدالملك: إني أري فيك خصالا. وإنك لخليق بهذا الأمر تقصد ولاية الحكم.. لكنها أردفت تحذره: قالت إن وليت الأمر فاحذر الدماء. فإني سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: "إن الرجل ليُدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملء حجمه من دم يريقه من مسلم بغير حق" صلي الله وسلم علي من علم هذه السيدة تلك التعاليم.. ورحم الله هذه السيدة من أهل الإيمان.