قاومت نفسي خلال الأيام القليلة الماضية حتي لا أقع في فخ المقارنة بين ثورة 23 يوليو وثورة 25 يناير والحكم بأيهما أفضل.. ففي تصوري أنها مقارنة ظالمة وفي غير موضعها.. لكنني وبعد تردد طويل وجدت في النهاية أنه لا مفر من الدخول الي معترك المقارنة.. خصوصاً بعد المقارنات الغريبة التي نشرتها الصحف.. والمقارنات الأخري الأكثر غرابة التي عرضتها شاشات الفضائيات والبرامج الحوارية. نعم.. هي مقارنة ظالمة وغير موضوعية لأنها تسقط عوامل الزمن ومتغيرات السياسة والاقتصاد ومستويات التعليم وعناصر التفاعل الاجتماعي وإختلاف الوسائل وأدوات التكنولوجيا.. واختلاف التوقعات والطموحات والأهداف.. وقبل ذلك وبعده أختلاف الأسباب التي من أجلها قامت الثورتان والظروف المحيطة بكل منهما داخليا وخارجيا.. واختلاف طبيعة الأشخاص الذين قاموا بالثورة وطريقة معالجتهم للأمور.. ورؤيتهم لأنفسهم وللشعب الذي ثاروا من أجله. كثيرة هي أوجه الاختلاف كما تري.. ومن ثم فإن الحكم علي أي الثورتين أفضل سيكون حكما جائرا وغير منصف.. ناهيك عن أن ثورة يوليو صارت الآن تاريخيا.. هي تجربة اكتملت وانتهت بايجابياتها وسلبياتها.. بينما ثورة 25 يناير مازالت تخطو خطوتها الأولي.. وفي كل الأحوال مازالت حلماً للمستقبل أكثر من كونها واقعاً ملموساً.. فكيف نقارن بين الماضي والحلم؟! لكننا علي الجانب الآخر لايمكن أن نهمل أن هناك جوهراً واحداً انطلقت منه شرارة الثورة في 25 يناير مثلما انطلقت منه شرارة الثورة في 23 يوليو.. هذا الجوهر هو كثرة المظالم والمفاسد التي سادت المجتمع.. من رأس الدولة إلي أظافر قدميها.. وجعلت الناس تنعي سقوط القيم العليا.. وتهتف من داخلها مطالبة ب "العدالة الاجتماعية" و"الكرامة الإنسانية".. حتي وإن اتخذ هذا الهتاف مفردات وعبارات مغايرة. ثم هناك عنصر آخر مشترك بين الثورتين هو التمرد العام علي التبعية للخارج.. فقد انتهي النظام الملكي قبل 1952 الي الاستسلام للاحتلال الانجليزي والقبول بحمايته والتعامل معه باعتباره واقعا لا غني عنه وزواجا كاثوليكيا لا فكاك منه.. وانتهي نظام مبارك أيضا إلي أن العلاقة مع الولاياتالمتحدة ومع إسرائيل من الباطن علاقة استراتيجية لا حياد عنها ولا بديل لها. ومثلما كان يفعل المندوب السامي البريطاني بالملك وحكوماته وحاشيته كان السفير الأمريكي يتلاعب بمبارك وحكومته وحاشيته وطبقة أصحاب المصالح المرتبطين به. وعانت مصر قبل 1952 من سيطرة الاقطاع ورأس المال علي الحكم..كما عانت قبل 2011 من سيطرة رجال الأعمال ومزدوجي الجنسية وأصحاب الاحتكارات والاستثمارات الدولية العابرة للقارات علي الحكم.. وعانت أيضا من الزواج غير الشرعي بين المال والسلطة الذي انتهي بها الي مخطط التوريث. ومع هذا التوافق والإتفاق في الأسباب فسوف يكون من التخريف السياسي تقييم نتائج ثورة يوليو طبقا للمعايير ذاتها التي ننظر بها اليوم الي ثورة يناير.. والتي يأتي في مقدمتها بالطبع الاصلاح السياسي المتمثل في وضع ضمانات إجراء انتخابات حرة نزيهة وفتح باب حرية تشكيل الأحزاب لجميع الاتجاهات والتيارات وتحديد مدة رئيس الجمهورية بأربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. كان الاصلاح السياسي بهذا المعني علي قمة طموحنا الوطني. بينما كان الاصلاح الزراعي علي قمة طموح الذين عاشوا ثورة يوليو في عامها الأول.. وتحقق هذا الاصلاح في طلقته الأولي بتحديد الملكية وتوزيع آلاف الأفدنة علي الفلاحين المعدمين. من هذا المنطلق.. وبسبب هذا الاختلاف في الطموحات والأولويات نستطيع أن نفهم لماذا جاءت "إقامة حياة ديمقراطية سليمة" في البند السادس والأخير لأهداف ثورة يوليو بينما جاءت علي رأس أهداف ثورة 25 يناير. كانت ثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر والمشاركون فيها والمؤيدون لها يحلمون بالعدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات.. لكنهم كانوا يفهمون الحرية علي أنها حرية الوطن واستقلاله.. وأن حرية أراضينا فوق كل الحريات.. أما ثورة يناير التي ليس لها زعيم ولا مجلس قيادة فتفهم الحرية علي أنها حرية الناس.. حرية المواطن في أن يقول ويفعل ويعتقد ما يشاء في إطار القانون.. حرية الجماهير في أن تتحرك كما تشاء في مواجهة استبداد الحكم وتسلطه.. وذلك لأنها جاءت في زمن العولمة والنت والفضائيات.. زمن حقوق الإنسان والتعددية السياسية والدينية والحريات العامة غير القابلة للتصرف. ومن أسف فإن ثورة يوليو رغم كل انجازاتها الرائعة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي إلا أنها انتهت الي الديكتاتورية وحكم الفرد وسيادة أهل الثقة علي حساب أهل الخبرة وتسلط دولة المخابرات وأمن الدولة.. ثم جاء عصر السادات ومبارك ليقضي علي إنجازات العدالة الاجتماعية وما تحقق من مكاسب للعمال والفلاحين والموظفين والفقراء والطبقة الوسطي ليقع البلد بالكامل في يد الحيتان الكبيرة يمصون دماءه لآخر قطرة.. فيعود الي المربع رقم واحد.. وتبدأ ثورة جديدة. وبقدر حزننا علي السنوات الطوال التي مضت في ظل الديكتاتورية والظلم والفساد فإننا نحلم بغد أفضل يتحقق بالحفاظ علي مكتسبات ثورة يوليو وايجابياتها والتخلص وبأقصي سرعة من قيودها وسلبياتها.. وإفساح الطريق لتصنع ثورة يناير مجدها بعيداً عن الفوضي والاضطراب ودون أن تستسلم للمؤامرات التي تحاك ضدها في الداخل والخارج.