عندما طرحت فكرة إنشاء وزارة للثقافة بعد ثورة يوليو كان الهدف منها هو إكساب الشخصية المصرية التعريف بتاريخها وحضارة وإرسال ثقافة الفكر الثوري والعمل علي صيانة مقدرات هذا الوطن الثري بالتراث والثروات الكبيرة. والعمل علي رعاية المكتسبات الابداعية الناتجة عن عطاء أفراده في كل مجالات الفنون والابداع الادبي ومن هنا وجب عليهم ان يضعوا سياسة ثقافية ترتكز علي ثلاثة محاور أساسية وهي أولاً: رؤية شاملة للكيان الثقافي المصري ودوره في المجتمع. ثانياً: سياسات نابعة من هذه الرؤية والتي تحول الاطار الفلسفي إلي خطط تفصيلية. وثالثاً: الخطط التنفيذية التي تمثل الترجمة العملية للسياسة النظرية. ورغم ان الهدف نبيل وعظيم إلا انه أخذ سنوات حتي أستقر فقد كانت هذه الوزارة الوليدة والتي ظلت تتحبط بين الكيانات الوزارية الاخري فمن يأخذ وزارة السياحة والآثار يأخذ الثقافة.. أو من يأخذ التعليم يتولي معها الثقافة أو وزارة الاعلام التي التصقت بوزارة الثقافة حتي عهد قريب. توالي علي تلك الوزارة اسماء كبيرة ومهمة منها د. ثروت عكاشة كأول وزير لها وتلاه د. محمد عبدالقادر حاتم. ثم سليمان حزين. بدر الدين أبوغازي. د. إسماعيل غانم. يوسف السباعي. د. جمال العطيفي. د. عبدالمنعم الصاوي. وحسن إسماعيل. ومنصور حسن.. ثم استقرت أخيراً كوزارة مستقلة منذ عام 1981 وأسندت إلي محمد عبدالحميد رضوان الذي احتفظ بالحقيبة الوزارية حتي عام 1985 وبعده ذهبت إلي د. أحمد هيكل حتي عام 1987 وبعده تولاها فاروق حسني 1987- 2011 تاركا الوزارة التي بدأت بأهداف نبيلة لمصلحة المواطن وتقلصت علي يديه منذ 1987 إلي وزارة المصالح والمنافع الشخصية والدليل علي قولنا هذا هو أن الوزارة في بدايتها أسست نادي القصة ومصلحة الفنون التي تولي رئاستها يحيي حقي ثم انشأت المجلس الاعلي للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. وكذلك هيئة الكتاب. هيئة قصور الثقافة "الثقافة الجماهيرية سابقاً" الهيئة العامة للمركز الثقافي القومي "دار الاوبرا المصرية" الهيئة العامة لجهاز التنسيق الحضاري. أكاديمية الفنون المصرية صندوق التنمية الثقافية. هذه هي الهيئات والقطاعات التابعة لتلك الوزارة فمن يري ويسمع هذا الاخطبوط الثقافي لابد وأن يتوقع أننا أمام قوة لايستهان بها لخلق حضارة موازية لما تركه لنا الاجداد وما قامت لاجله هذه الوزارة للحفاظ عليه ودعمه وتهيئته لمصلحة الوطن والمواطن ولعل في عهد ثروت عكاشة الوزير الاشهر للثقافة في الستينات والذي حقق النهضة الثقافية بحرصه علي إيجاد المسرح والمتاحف وسلاسل الكتب الدورية والمعاجم والتراجم ودوائر المعارف.. بالاضافة للكيان الجبار "الثقافة الجماهيرية" التي تصل لكل مدينة وقرية ونجع وكذلك السيرك القومي والصوت والضوء بالاضافة إلي مشروع قومي عظيم هو إنقاذ آثار النوبة أثناء بناء السد العالي. بعد الثورة من يعرف هذا التاريخ كان ينتظر ان تقوم بعد ثورة يناير المجيدة نهضة ثقافية اكثر قوة وعظمة خاصة وأننا نمتلك هذا بعقول مستنيرة وإمكانات ربما متوفرة أكثر من ذي قبل ولكن لان الثقافة أصبحت مستهدفة منذ أكثر من ثلاثين عاما.. عندما كتب علي شعب مصر أحد أمرين ان يسير في ركاب الحاكم "بنعم" أو ليصمت.. فكانت ثقافة الحظيرة ومحاولة التدجين ثم تغليف عقول المصريين بالرجعية والتخلف ومع ذلك هناك بعض المشاريع كانت تأتي علي استحياء كالمتحف المصري الكبير وتحويل الاقصر مدينة التاريخ إلي متحف مفتوح وقد أحزنني كثيراً منظر طريق الكباش الذي توقف العمل به وأصبح مقلباً للهدم علي أطرافه. القضية إذن حالة تخبط فمنذ قيام الثورة وتوالي علي وزارة الثقافة ستة من الوزراء هم جابر عصفور. ومحمد الصاوي. عماد أبوغازي. شاكر عبدالحميد. محمد صابر عرب "مرتين" وأخيراً علاء عبدالعزيز. تقسيم المثقفين لم تكن وزارة الثقافة بمنظومتها القديمة هذه منشغلة بالتوعية والتثقيف ووقف التطرف والتصدي للجهل. بل مشغولة بتوجيه المثقفين وتقسيمهم إلي "أتباع" أوفياء لفاروق حسني وسوزان مبارك والنظام الفاشي المستبد. وهؤلاء الاتباع يعينون مستشارين في جهات الوزارة المختلفة. ورؤساء تحرير إصداراتها الصحفية. ويحصلون علي منافع السفر ومكافآت ضخمة تحت مسميات عدة. غير توطينهم في مناصب الوزارة وهيئاتها.. وليس شرطاً أن يكونوا أكفاء أو نوابغ. بل هو الولاء والدفاع عن الوزير وأفعاله وستر كل عورات النظام الساقط. وقد أهدرت أموال طائلة لتحقيق هذا الغرض. انفاقاً علي هؤلاء الاتباع وتدليلهم. أو إصدار مطبوعات فاشلة. والقسم الثاني من المثقفين تبعاً لتقسيمات النظام الساقط- هم أقلية محاصرة. تحارب في أرزاقها. ولا تحصل علي أدني حقوقها- كمبدعين للشعر والرواية والقصة والمسرح والفن التشكيلي وسائر فنون الابداع- فنادراً ان تجد لهم عرضاً مسرحياً. أو أعمالاً كانت تصدر لهم أو يحصلون علي جوائز الحكومة والنظام المسماة بجوائز الدولة.. ولانهم محاصرون فصوتهم لايصل للشعب. ولايتواصل معهم الناس لكي يعبروا عن رفضهم للنظام الفاسد وأذنابه وربما كان هذا هو دافع صنع الله إبراهيم أن ينتهز فرصة التغطيات الاعلامية الواسعة لمؤتمر الرواية منذ سنوات. ويعلن رفضه لجوائز السلطة وإدانته لهذه السلطة. ويكتفي المبدع العظيم صنع الله إبراهيم بأن يظل قابعا في الظل!! ثم كانت الفئة الثالثة من المثقفين. وهي الملتزمة للسلبية والمحاطة بالاحباط. بعضهم حاول اللحاق بأصحاب الحظوة فلم يفلح. وبعضهم رفض التعبير الصريح عن الموقف أمام انهيارات الوطن. وبعضهم معزول جغرافياً. تغلغل الفساد هذا التقسيم والكلام هنا موجه لوزير الثقافة الجديد د. علاء عبدالعزيز مازال قائما حتي الآن حلقة النظام القديم مازالت متماسكة في هذه الوزارة ومازالت مسيطرة علي الهيئات والقطاعات. ومازالت أشكال الفساد متغلغلة متوحشة قادرة علي الدفاع عن نفسها والهجوم علي أي محاولة لتطهير هذه الوزارة وضرب الفساد والفاسدين.. كان في نية بعض الوزراء وفي خطواتهم الاولي وخاصة محمد الصاوي ود. شاكر عبدالحميد- التخلص من اتباع فاروق وفلول نظامه. لكن تحالف ضدهم هؤلاء الفلول. ولم يسعفهم الوقت لتطهير الوزارة.. فهل يستطيع الوزير الجديد فعل هذا؟!! استقبل البعض هذا الوزير الجديد بعاصفة من الرفض لانه إخواني. أو لان لديه شوائب اخلاقية أو لانه مجهول للمثقفين وليس له ثقل فكري أو إبداعي.. ونحن لا ننكر هذه التهم ولا نؤكدها ولكن ما نستطيع تأكيده هو أن هذا المنصب تولاه مفكرون كبار.. بعد الثورة.. ومثقفون محترمون أمثال. د. شاكر عبدالحميد ود. عماد أبوغازي- ولم يستطيعوا تطهير الوزارة ولا التخلص من الفساد والفاسدين ولم يبادر د. صابر عرب الوزير السابق باتخاذ هذه الخطوة. ولذا فقد كان هذا مثار الخلاف الدائم بيننا وبينه.. نختلف معهم وهم أصدقاء لان مطالب الثورة في التطهير وإنقاذ الثقافة الوطنية أهم من الصداقة الشخصية.. وقد نختلف مع الوزير الجديد- الذي لانعرفه ولم نسمع به من قبل- علي مستوي الانتماء الفكري السياسي. لكنه هل يستطيع أن ينجز هذا التطهير لصالح الوطن؟.