لا تزال تعاليم وإبداع الفنان صلاح عبدالكريم يمثلان ميراثا تفخر به حركة الفنون الجميلة المصرية وتعتبر هذه التعاليم نماذج للاقتناء والتوجيه في مجالات الجمال والتفوق. سافر صلاح عبدالكريم في بداية عام 1953 إلي باريس ليبدأ دراسته العليا. إذ اكتشف انه يفتقر إلي الكثير من المفهومات النظرية عن فلسفة التشكيل الفني ومنهج الانتاج الذي يرتكز علي خطة فكرية تستوعب آخر ما وصل اليه الفن من تقدم تكتيكي يرتبط بالتقدم الصناعي والمكتشفات العلمية. فالفن النفعي يستلزم بالضرورة التعرف علي أحدث وأعلي المستويات المعروفة في فنون التصميم والطباعة والتكنولوجيا المرتبطة بالأشكال التي تنتج لتتلاءم معها. وفي باريس التحق بمرسم الفنان العالمي "كاسندر" الذي أحدث انقلابا في فن الاعلان عندما انتقل به من تعبيرية "تولوز لوتريك" إلي المدرسة الرمزية الحديثة وانتقل بالديكور المسرحي من الأسلوب الواقعي وعصر الصالونات إلي التبسيط الموحي للمدرسة الرمزية. وانبهر صلاح عبدالكريم بأستاذه العالمي الذي استطاع أن يطور كل مفهوماته السابقة عن الفن وعلم الجمال في محاضرات نظرية مطولة تتناول الألوان وعلاقاتها ودلالاتها ومفهوماتها المختلفة.. وكانت تعاليمه الموسوعية هي الأساس النظري والعملي الذي استوعبه صلاح عبدالكريم وأقبل عليه في نهم فأقام أعماله الفنية في تلك الفترة علي أساس هذه المفهومات الجديدة التي أعطته ثقل الفنان المتمكن وكانت دراسته تتضمن التصوير الزيتي وتصميم الديكورات المسرحية والإعلان والتصميم المعماري. ولكن كاسندر عرف بموقفه المعارض للتجريدية وهو يعتبرها موضة ورغم الانقلاب الذي أحدثه كاسندر في فن الاعلان إلا انه لم يكن في وسعه تقديم أحدث المفهومات التشكيلية إلي تلميذه إلا من خلال موقفه المعارض للتجريدية والمتمسك بالعزيمة ومع هذا يرجع إليه الفضل في تنمية مهارات صلاح عبدالكريم المتشعبة وصقلها.. لقد وجهه إلي استخلاص كل الدلالات والرموز التي توحي بها الألوان المختلفة ودرجاتها في علاقاتها مع الخطوط ودفعه إلي تجريب هذه الدلالات كما فتح عينيه علي نظرة نقدية جديدة للأعمال الفنية المختلفة جعلته يستوعب في ذاكرته الفنية كل ما يراه في المتاحف والمعارض من أعمال فأثري بذلك مخزونه الذهني من الصور والأشكال وطرق المعالجة. وفي نفس الوقت لم يمهل الفنان الشاب الأستاذ الأول لجميع الفنانين أي الواقع.. فظل متمسكا بالدراسة المباشرة عن الطبيعة فالتحق بأحد مراسم "مونبارناس" بعد الظهر حيث مارس الرسم والرسم السريع عن النماذج البشرية الحية. وبعد ثمانية أشهر من الدراسة علي يدي الفنان كاسندر طلب من المشرفين علي بعثته مضاعفة عدد الدروس الاسبوعية أو الانتقال إلي مرسم فنان آخر يمثل مفهومات أخري أكثر حداثة وشمولا من مفهومات كاسندر.. وهكذا التحق بمرسم الفنان "بول كولان" وهو أحد منافسي كاسندر في مجالات الفنون الزخرفية "هندسة الديكور" وهو يفتح مرسمه لطلاب الفن في الشرق والغرب بعكس كاسندر الذي كان صلاح عبدالكريم هو تلميذه الوحيد ثمانية أشهر. ان "كولان" يتبع المدرسة التجريدية وينتقد كاسندر بجرأة رغم تقديره لاتجاهه الفني ويعلم تلاميذه كيف يستخدمون الاسلوب التكعيبي وكيف يستفيدون من المفاهيم التجريدية المستخدمة في التصوير الزيتي عند التصدي للديكور والاعلان والتصميم وغيرها من الأشكال الفنية ذات الاستخدام المباشر في الحياة اليومية. واستمر صلاح عبدالكريم في مرسم هذا الفنان لمدة عامين درس خلالها أعمال الفنان العالمي "بابلوبيكاسو" وناقش انتاجه بدقة. وقد انتج في تلك الفترة عددا كبيرا من اللوحات الزيتية باعها كلها وتبلغ حوالي أربعين لوحة معظمها تصور الطبيعة الصامتة.. وقد كانت صاحبة الفندق الذي يقيم فيه من المعجبات بفنه فكان يقدم لها في نهاية كل شهر لوحتين من انتاجه مقابل الايجار الشهري لإقامته في فندقها وكانت تثبت تلك اللوحات في ردهاته.. وعندما عاد صلاح عبدالكريم منذ فترةإلي باريس زار الفندق فلم يجد لوحاته أو صاحبة الفندق وعلم انها باعته وحملت اللوحات ورحلت إلي مكان غير معروف. انتقل الفنان إلي ايطاليا في أواخر عام 1955 حيث أقام في الأكاديمية المصرية للفنون الجميلة بروما والتحق بمعهد السينما التجريبي لدراسة الديكور السينمائي. وانصرف الفنان إلي الانتاج الحرفي التصوير الزيتي حيث قدمت له الأكاديمية المصرية للفنون الجميلة مرسما كبيرا ووفرت له كل خامات وأدوات الرسم والتصوير فاستغرق في الانتاج وحصل علي درجة الامتياز عند تخرجه في معهد السينما التجريبي بروما كما درس فن الخزف من عام 1955 حتي 1957 خلال اقامته بإيطاليا. التفوق في عام 1956 شارك في مسابقة "سان فيتورسانو" للمناظر الطبيعية وهي مسابقة سنوية عامة يشارك فيها الفنانون الايطاليون والأجانب. كما خاض الفنان في نفس العام مسابقة الاعلانات السياحية بإيطاليا ففاز بجائزتها الأولي وهي كأس فضية وشارك في بينالي البندقية عام 1956 بست لوحات زيتية في الجناح المصري بالمعرض. وفي عام 1957 اشترك في مسابقة الانتاج الفني في مصر وأرسل من روما لوحته فرع "التصوير الزخرفي" ففاز بالجائزة الأولي وكانت هذه المسابقة قد أقامتها وزارة التربية والتعليم وبلغت جوائزها أربعة آلاف جنيه وشارك فيها 145 فنانا في فروع النحت والتصوير والحفر والفنون الزخرفية والفن التطبيقي. ان احساس صلاح عبدالكريم الدائم بالرغبة في التطوير والنمو واستيعاب المفهومات الجديدة في عالم الفن دفعه إلي محاولة اشباع هذه الرغبة عن طريق ممارسة العديد من أشكال الفنون الجميلة بالتنقل من خامة إلي أخري ومن طريقة تكتيكية إلي غيرها وهذا هو السبب في تعدد مهاراته وتنوع أشكال ابداعه الفني. وفي عام 1958 عاد من بعثته لينشغل بالتدريس في قسم الفنون الزخرفية بكلية الفنون الجميلة وقد حاول الاستمرار في انتاج الخزف ولكنه اصطدم بمشكلة عدم توفر الأفران الخاصة بهذه الصناعة فاقتصر انتاجه الفني لفترة علي التصوير الزيتي وألحت عليه الرغبة في التشكيل المجسم فلم يستطع مقاومتها وفي نفس الوقت لم يتمكن من اشباعها بالخزف ففكر في عمل شكل مجسم من الحديد ليزين به ركنا في بيته. كان الفنان قد شاهد في باريس أعمالا لبيكاسو وشادويك ومولر وسيزار استخدموا في تشكيلها خامات غريبة وبقايا ونفايات.. ولكن صناعة التماثيل المركبة من الحديد لم تكن قد انتشرت في أوروبا وانما كانت مجرد محاولات متفرقة في المعارض واستطاع صلاح عبدالكريم أن يدرك ما يتضمنه الحديد كخامة من تعبير عن التقدم الصناعي فكان أول فنان عربي يخوض هذا الميدان ويبرع فيه ويصبح رائدا في هذا المجال. وأبدع سمكته الشهيرة التي رآها الفنان بيكار وكان رئيسا لقسم التصوير الزيتي بكلية الفنون الجميلة حيث يعمل الفنان في ذلك الحين ورشحها لتعرض في بينالي ساوباولو بالبرازيل عام 1959 وشجع الفنان علي الاستمرار في هذا المجال فكان تمثاله الثاني الثور الذي تقدم به إلي بينالي الاسكندرية وكانت مفاجأة له عندما حصل علي جائزة النحت الشرفية عن سمكته من بينالي ساوباولو متقدما علي فناني ثمانين دولة وبعد شهرين أعلنت نتيجة التحكيم في بينالي الاسكندرية ففاز بجائزة النحت الأول علي القسم المصري بالمعرض. وفي عام 1957 شارك بمجموعة من أعماله في المعرض المصري المتجول بمدن ايطاليا والمجر والنمسا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا وسويسرا ويوغوسلافيا وفرنسا وقد شارك في هذا المعرض بعشر لوحات مع خمس قطع خزفية.