لم يعد فى الإمكان تجاهل نتائج انتخابات مجلس الشعب المصرى، التى كشفت عن فوز ساحق للتيارات الإسلامية، وعلى رأسها حزب الحرية والعدالة، (أكثر من 70% من المقاعد)، منها أكثر من عشرين فى المائة للسلفيين.. وهو رقم كبير مقارنة بماحصلت عليه كل الأحزاب الأخرى مجتمعة (أقل من 30%) بما فى ذلك الوفد وحزب ساويرس، والتجمع، الذى حصل على 3 مقاعد فقط بفضل زعيمه المغوار رفعت السعيد.. كنت أتوقع قبل بدء الانتخابات نتائج قريبة من هذه الأرقام، مخالفًا بذلك توقُّعات وتحليلات جهابذة التحليل السياسى، الذين صُدموا بهذه النتائج.. لأنهم كانوا غارقين فى أوهام التفوّق العلمانى والعقلانية البائسة التى لا تستند إلى واقع ولا منطق ولا دراسات إحصائية تستحق الاحترام.. المهم الآن هو أن يعترف الجميع بأن هذه النتائج هى الاختيار الحر النزيه لمجموع الشعب المصرى.. وأن على الجميع أن يتعاملوا مع هذه الحقيقة بصدق وأمانة، واضعين خير مصر ومصلحتها فوق أى اعتبار آخر.. وكفانا تشويها وتخوينا وبحثا فى النوايا الخفية.. ولنلتفت إلى القضايا المصيرية الحاسمة ولنواجه المشكلات العويصة التى خلّفها لنا واحد من أسوأ وأحط الأنظمة السياسية وأكثرها فسادًا فى العالم: مشكلات الأمن والتردّى الاقتصادى، والبطالة والأجور والتعليم والصحة، والإعلام المضلّل، واستكمال البناء الديمقراطى؛ بانتخاب رئيس للدولة والانتهاء من وضع دستور للبلاد.. ونقل السلطة إلى حكومة الشعب المنتخبة، لينصرف الجيش إلى مهمته الأساسية فى الدفاع عن أرض مصر وحماية الأمن القومى.. أعلم أنه لا يزال من بيننا أناس لا تعجبهم نتائج الانتخابات ولا يعترفون بصلاحية الشعب المصرى للديمقراطية.. وعندى أن علامة يقظة هذا الشعب وأهليته وصلاحيته بل وذكائه السياسى أنه وضع الأحزاب العلمانية فى حجمها الصحيح كأحزاب انتهت صلاحيتها لأنها ترتبط فى ذهنه بالنظام الفاسد، الذى ثار عليه وأسقطه.. وكان بعضها يؤجج الحرب الطائفية ويسعى لتقسيم مصر وفق مخططات أمريكية صهيونية.. ولو لم يكن هذا الشعب واعيًا يقظًا وذكيًا لانزلق مع هذه المخططات الطائفية.. ولكنه أدركها وعمل على إسقاطها باختياره للإسلاميين، الذين توسّم فيهم الطهارة ونظافة الأيدى والحرص على مصالح مصر وتقدمها.. أعلم أيضًا أن هناك خشية من أن يلتئم شمل التيارات الإسلامية فى قوة سياسية واحدة تقود المشهد السياسى فى مصر، رغم كل التطمينات التى تصدر من قيادات هذه التيارات.. ومن ثم يتجه قدر من الهجوم والتشويه ومحاولة ضرب أى توجه لتحالفات ممكنة بين حزبى الحرية والعدالة وحزب النور الإسلاميين.. ينشط فى هذا المجال التخريبى: عناصر محلية مدعومة بقوى أجنبية ماليا وإعلاميا مستندة إلى أخطاء وسذاجة بعض المتحدثين خصوصًا الذين هم لا يزالون حديثى عهد بالعمل السياسى.. لست أدارى فى هذا التصريح فهو قائم وموضوعى مشهود، ولا يجب أن يتوارى منه السلفيون بل عليهم ومن حقهم وواجبهم أن يواجهوا هذه الحقيقة، وأن يصلحوا من أنفسهم وأن يراجعوا أفكارهم وثقافاتهم ويتفهموا الواقع الذى يحيط بهم.. وما يتطلبه هذا الواقع الجديد من قدرات على المواجهة والحلول الذكية.. بدلا من التقوقع فى الأفكار الجاهزة التى تجاوزها الواقع.. هذه دعوة ونصيحة إلى الاستبصار العميق فى النفس والرؤية العلمية الإسلامية لآفاق الواقع المتغيّر.. ويجب أن يكون كلامى مفهومًا فى هذا الإطار.. وفى هذاالإطار وحده.. بعيدًا عن الغلوٍّ والشطط وسوء الفهم... أضرب بعض أمثلة على ما سبق أن تعلّمه الإخوان المسلمون خلال مسيرتهم الطويلة فى مجالات الاحتكاك بالواقع السياسى المتغير والعمل مع القوى السياسية المختلفة: ** خلال الثمانينيات حَظِى الإخوان ببعض مقاعد فى البرلمان.. وأذكر أن قانون إيجارات المساكن القديمة كان معروضًا على مجلس الشعب، لتغييره بعد أن ضج أصحاب هذه المساكن من تدنّى هذه الإيجارات، وقد ارتفعت تكاليف المعيشة أضعافًا مضاعفة وأصبحت هذه المساكن عبئًا على أصحابها فلا يحصلون منها على شىء يذكر، ولا يستطيعون بيعها والاستفادة من ثمنها، ومن ناحية أخرى لا يستطيعون صيانتها.. مما أدى إلى تردّى حالتها وأصبح بعضها آيلا للسقوط.. ولكن كان هناك اتجاه قوى فى البرلمان وفى الصحافة إلى عدم تغيير القانون واللجوء إلى بدائل أخرى للإصلاح، خصوصا أن رفع الإيجارات سيؤدى إلى كوارث بين الطبقات المتوسطة الدنيا التى ورث أبناؤها هذه الإيجارات وأصبحوا يسددون إيجاراتها -على تدنّيها- بمشقة بالغة فى ذلك الوقت.. لم يلتفت نواب الإخوان إلى دراسة الواقع من كل جوانبه قبل أن يتخذوا رأيًا أو موقفًا من الموضوع، وإنما اعتمدوا على قاعدة فقهية بسيطة، وهى أن العقد هو شريعة المتعاقدين وأنه ما دام قد أصبح العقد مسببًا للضرر عند طرف هو صاحب المسكن فمن حقه أن يلغى العقد، ويحدد القيمة الإيجارية التى يراها مجزية له.. فإن رفض المستأجر أصبح من حق صاحب المسكن أن يقاضيه ويطالبه بإخلائه وتسليمه.. لم يفهم نواب الإخوان فى ذلك الوقت مقدار ما كانت ستجلبه رؤِيتهم لو تحققت من كوارث على ملايين الأسر الضعيفة ومنهم الأطفال والأرامل وكبار السن الذين يشعرون بالإرهاق حتى فى تسديد أجرة السكن المستحقة فى إطار القانون القديم.. ولم يتنبه نواب الإخوان إلى شدة العاصفة الإعلامية التى أثيرت حول موقفهم إلى درجة اتهامهم بانعدام الشعور الإنسانى بمآسى ومشكلات الفقراء.. وكانت فرصة اغتنمها خصومهم من أدعياء العدالة الاجتماعية.. فغالوا فى الهجوم عليهم وتجريدهم من الوطنية.. ولو كان الإخوان قد تعمقوا فى فحص الواقع حينذاك لأدركوا أن الحل الفقهى الجاهز ليس هو الحل الأمثل وأن حلولا أخرى من صميم الشريعة ومقاصدها الكلية كان يمكن الوصول إليها بشىء من إعمال الفكر والتروّى.. كان من الممكن التمييز بين الفئات القادرة على تحمّل زيادات معقولة ومتدرّجة فى الإيجار، أما الفئات الأخرى غير القادرة فهؤلاء كان يمكن دعم فروق الإيجار بواسطة الدولة، مع المؤسسات الخيرية.. وبذلك يزول الضرر الواقع على أصحاب العقارات.. وتنحل عقدة المستأجرين الضعفاء.. أذكر أنى تحدثت مع بعض الإخوان المقيمين بالخارج وكانوا مقتنعين بفكرتى فقد رأوا فيها حلا يتحرى المقاصد الشرعية.. واجتهادًا مقبولا فى موضوع لا تصلح فيه الأحكام والفتاوى الجاهزة التى هى بضاعة الكسالى والمسترخين.. وهكذا تعلم الإخوان درسًا باهظ التكاليف.. ** كان الإخوان إذا سُئلوا عن موقفهم من التعاون مع الأحزاب الأخرى قالوا: إلا الشيوعيين فقد كانوا يركزون على عقائدهم ولا يتصورون أن يتعاونوا مع الملاحدة القرامزة، كما كان يُطلق عليهم فى ذلك الوقت، وبرغم أن أسوأ ما وُجّه إليهم من هجوم وافتراءات وعداء كان يأتى من جانب الشيوعيين خصوصا من زعيمهم رفعت السعيد، إلا أنهم الآن يمدّون أيديهم للتعاون المشترك بينهم وبين الأحزاب العلمانية والنصرانية على مبادئ وأهداف وطنية ما دام العمل يتحرى المصلحة المشتركة بصرف النظر عن العقائد والأيديولوجيات التى يحملها هؤلاء فى عقولهم.. فهذا مجال ليس مطلوبًا منا أن نحاسبهم عليها بل يحاسبهم عليها خالق البشر يوم تقوم الساعة.. وكان موقف الإخوان متسقًا مع روح الإسلام وشريعته.. التى لا اعتراض فيها على أن يجتمع أهل البلد على كلمة سواء فى الشأن الوطنى المشترك.. **ومن هذا أيضًا أن الإخوان فى عهد مرشدهم الحالى الدكتور محمد بديع كانوا قد أصدروا مسودّة وثيقة ضمّنوها رؤِيتهم السياسية، وعرضوها للنقاش على نطاق واسع، وبرغم أنهم أعلنوا أنها وثيقة مؤقتة قابلة للنقاش والتعديل، وهو أمر يُشكرون عليه، إلا أنهم لقوا هجومًا ضاريًا من خصومهم خصوصًا فيما يتعلق بثلاثة مقترحات: منع المرأة وغير المسلم من تولِّى منصب رئاسة الدولة، وإنشاء هيئة عليا من الفقهاء لمراقبة القوانين حتى لا يتم إصدارها مخالفة لأحكام الشريعة.. وقد رأى الإخوان إسقاط هذه البنود من وثيقتهم.. باعتبارها من المسائل المثيرة للجدل بغير طائل.. ومن ناحية أخرى رأوا بتفكيرهم البراجماتى (العملى) أن النص أو عدم النص على هذه المسائل لن يغيّر من الأمر الواقع شيئًا؛ وهو أن الغالبية العظمى المسلمة هى التى ستقرر فى أى انتخاب حر نزيه من سيحكم بلادهم.. بصرف النظر عن جنس المرشح أو دينه.. وأن الشعب المسلم هو الذى سيكون من حقه مراجعة نوابه وحكّامه فيما يصدرون من قوانين وقرارات.. وأنه سيكون عليهم الرقيب والمحاسب.. وأنه لن يسمح بتمرير قوانين تخالف الشريعة.. فلا داعى إذن لوجود لجنة من الفقهاء تقوم بهذه المهمة.. فهذه كلها تحفّظات واحتياطات لا تعبر إلا عن وساوس وأوهام لم تنضج ولم يتم تهذيبها من خلال الاحتكاك بالواقع والممارسة العملية.. لقد تعلّم الإخوان الكثير من خلال العمل السياسى والاحتكاك بالواقع والتعامل معه.. أو بالأحرى الصراع مع القوى والجبهات المختلفة.. وانتهوا إلى الصورة التى نراها اليوم متمثلة فى جناحهم السياسى: حزب الحرية والعدالة.. **أذكر أننى تلقيت منذ فترة مبكرة رسالة إلكترونية من الصحفى على عبد العال تحتوى على مقال له يتحدّث فيه عن اعتزام السلفيين إنشاء حزب سياسى خاص بهم فكتبت له تعليقًا على مقاله نصحت فيه إخواننا السلفيين ألا يقدموا على هذه الخطوة.. وأن يركزوا جهودهم فى هذه المرحلة على دعم جماعة الإخوان المسلمين والتعلم من خبراتهم، فإنّ تآزر الإسلاميين فى هذه المرحلة وتكاتفهم هو طوق النجاة لهم من مؤامرات العلمانيين وفلول النظام البائد.. وحذرته من أن السلفيين عندما يقتحمون العمل السياسى بدون خبرة سابقة ستصدر عنهم أخطاء مروّعة.. وسيتم استدراجهم إعلاميًا للإدلاء بتصريحات تسىء إلى الإسلام قبل أن تسىء إلى أشخاصهم وحركتهم.. وسيكونون عبئا على إخوانهم فى التيار الإسلامى الأكثر نضجًا والأحرى بالمساندة.. وقد حدث ماحذّرت منه.. أما وقد سبق السيف العذْل (كما يقول المثل العربى) وأصبح للسلفيين حزب حقق نجاحًا كبيرًا فى الانتخابات فلا بأس من تدارك الأمر.. على أمل أن ينسّق السلفيون مع حزب الحرية والعدالة.. بحيث يتجنبون الصدام معه.. هذا الصدام هو الأمل، وهو الهدف الذى يخطط له وينفذه أعداء الحركة الإسلامية فى مصر، وفى الخارج.. إننى أرى أن السلفيين سيكونون فى مأزق كبير إن لم يتم التنسيق بينهم وبين الإخوان، فهم وحدهم لا يمكن أن يشكلوا حكومة.. ولن ترضى عنهم الأحزاب العلمانية.. وبدلا من ذلك ستحاول استغلالهم وتسخيرهم لخدمتها إن استطاعت.. أو تضرب بهم حزب الحرية والعدالة.. وبذلك تخسر الحركة الإسلامية برمّتها.. وتتبدّد الجماهير، التى اختارت السلفيين لأنهم لن يستطيعوا الارتفاع إلى طموحات جمهورهم وتوقعاته منهم.. ولن يستطيعوا التكيّف مع هذه الأحزاب العلمانية بأفكارٍ وآليات تقليدية جامدة.. فهذه مهمة منوطة بحزب الأغلبية صاحب التاريخ والممارسة العملية المرنة مع هذه الأحزاب.. فهو وحده الذى يستطيع التحاور والتفاوض الناجح معها.. وسيتعزز موقفه بتآزر التيارات الإسلامية الأخرى وتدعيمها له.. وأخيرًا أرجو أن تستقبل مقالتى هذه آذان صاغية وعقول واعية.. فلا أحتاج أن أردد مع الشاعر المتنبى قوله المأثور: ومن البليةِ عذْلُ من لا يَرْعَوى ::: عن غَيِّهِ وخِطابُ من لا يفهمِ myades34&gmail.com