لا أعرف لماذا وفور أن انتهيت من قراءة كتاب صديقي الكاتب الصحفي والباحث "ربيع سكر" حول المفكر الموسوعي "محمد لطفي جمعة" سيطرت على ذهني خاطرة حول العلاقة الوثيقة بين الدرب والمنهج الذي اختطه سكر لنفسه منذ كان شابا يافعا وبين سبب اختياره لشخصية "لطفي جمعة" إذ وجدت أن ثمة خيط قوي يربط بين الأمرين ف"ربيع سكر" الذي تعرفت عليه كما تعرف عليه أندادي في منتصف التسعينات من القرن الماضي مناضلا شريفا أخلص سنوات شبابه الأولى للدفاع عن الحرية وحقوق المظلومين من أبناء هذا الوطن المسلوبة تشاء الأقدار أن تكون باكورة أعماله الفكرية أيضا محاولة للانتصار لمفكر مصري عانى ما عانى من ظلم التجاهل والتهميش رغم كل هذه الإسهامات الفكرية العظيمة التي قدمها الرجل – حوالي أربعين كتابا في مجالات مختلفة - والتي إن لم تفق ما قدمه آخرون نالوا ما نالوا من الشهرة لا تقل عنها أهمية الأمر الذي كان يفرض على الجميع أن يلتفت لها ويحسن ترويجها حتى يستفيد منها الجميع وهو بكل أسف ما لم يحدث فبقيت حدود معرفة الرجل مقصورة على الباحثين والمتخصصين . والكتاب رغم صدوره العام الماضي إلا أن قصة تأليفه تعود لنحو أكثر من 15 عاما تقريبا إذ وكما أشار صديقي "سكر" في مقدمته للكتاب أن موضوع البحث كان أطروحة لنيل درجة الماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة غير أنه ونظرا لظروف عمله بالصحافة لم يتمكن من إنجازها حيث شغله العمل الصحفي .. والحقيقة أن صديقي "سكر" حاول بما يقدمه من مبرر أن يجمل الصورة بعض الشئ فالحقيقة الكاملة تشير إلى أن ثمة أسباب أخرى كانت باجتماعها صخرة تحطمت عليها الأحلام البحثية للكثيرين بينهم "سكر" إذ قدر لآخرين ممن يعملون بالصحافة والإعلام أيضا أن يستكملوا دراساتهم ويحصلوا على درجات علمية رفيعة بيد أن الصحفيين في مصر ينقسمون إلى فئتين فئة التحقت بمؤسسات صحفية كبيرة جعلت المنتمين لها في حالة استغناء عن البحث عن عمل آخر سواء في صحف أخرى أو في مكاتب عربية أو غير ذلك فتوفرت لديهم سعة الوقت وقدر من الطاقة والجهد تمكنهم من إتمام أبحاثهم وفئة أخرى تنتمي لمؤسسات لم تمنح العاملين بها حد الكفاية ما اضطرهم للعمل في أماكن أخرى سعيا وراء الرزق وسد للاحتياجات. أخيرا نجح صديقي "سكر" في أن يصدر الكتاب الذي طالما حلم بإنجازه حتى يشعر بينه وبين نفسه أنه تمكن من القفز فوق واقعه الأليم يوم كان مضطرا لأن يتجاوز حلما من أجل حلم آخر .. وليؤكد لنفسه قبل الآخرين أن المسالة لم تكن متعلقة بكفاءة أو بقدرة بحثية مفقودة وهو ربما الأمر الذي يفسر لدي إصرار "سكر" على إصدار هذا الكتاب بالذات على الرغم من إدراكه اليقيني بأن الكتاب ربما لا يحظى بشهرة أو شعبية وكان يمكن أن يقدم موضوعات أخرى أكثر إثارة مما يقبل عليها الناس .. والصديق "سكر" محق في ذلك فكفاءته البحثية ومنذ كان طالبا تفوق الكثيرين ممن حصلوا على درجات علمية سمحت لهم أقدارهم وظروفهم بذلك لهذا فيقيني أن يكون كتاب "سكر" عن "لطفي جمعة" بداية سلسلة طويلة من الكتب والدراسات فبداخله الكثير والكثير الذي يريد أن يقوله خاصة وقد أدرك أن ما بقي من محطات القطار أقل مما فات ومن ثم لم يعد ثمة وقت يضيعه. وكتاب "لطفي جمعة" جاء في ستة أبواب شملت الحديث عن حياة مفكرنا وعصره ومدرسته الفكرية وآراؤه في العقيدة والفلسفة الإسلامية وفي الفلسفة العامة فضلا عن الآراء الإصلاحية والمعارك الفكرية التي خاضها "جمعة" وأخيرا موقفه من المذاهب الفكرية والأديان. واعتقادي أن الباحث "سكر" حاول أن يلتزم بمخطط البحث الذي كان قد تقدم به لقسم الفلسفة بدار العلوم للحصول على إجازة للقيام بالدراسة غير أنني وللحقيقة تمنيت لو كان قد تمرد على هذا المخطط خاصة وأنه قد اطلع بما فيه الكفاية على الكثير من كتابات ودراسات مفكرنا "لطفي جمعة" ومن ثم فقد كان يمكنه اختيار العديد من القضايا التي كانت ولم تزل أكثر إثارة وطرحها مفكرنا عبر كتبه ودراساته ومقالاته وهو الأمر الذي كان يمكن أن يضرب عصفورين بحجر فيحقق حلمه وفي ذات الوقت يكون الكتاب مادة تغري على القراءة لدى جيل أصابه ما أصابه. لكن ذلك على كل حال لا يمنعنا من الاعتراف بأن "سكر" نجح إلى حد كبير في أن يقدم مفكرنا "لطفي جمعة" بصورة بانورامية للجيل الحالي فقارئ الكتاب حتما سيخرج بفكرتين لا ينفكا تطارداه لفترة من الزمن الأولى أن الثقافة في عصر هؤلاء العمالقة كانت تعني الموسوعية وما كان لأنصاف الموهوبين مكانة مرموقة بين هؤلاء والثانية أن التاريخ وبكل أسف لم يفتأ يمارس شكلا من أشكال الظلم حيث أغمض حق شخصية مثل شخصية "لطفي جمعة". وعلى المستوى المنهجي فإني لي ملاحظتين: الأولى: الإيجاز الشديد في طرح آراء مفكرنا لطفي جمعة حول بعض القضايا فجاءت وكأنها عناوين مختصرة لا تزيد النفس إلا ظمأ ورغبة في الاستزادة من معرفة تفاصيل لهذه الآراء. الأخرى: أن الصديق "سكر" اقتصر على مجرد طرح رؤى مفكرنا دون مناقشتها سلبا أو إيجابا. وللمزيد من التوضيح فقد كنت وبصفتي قارئ أود لو يستطرد الباحث في موقف "جمعة " حول هل لليهود فلسفة أم لا ؟ وإعجابه بالمعتزلة وكيف ينسجم ذلك مع موقفه الإيجابي من الحركة الوهابية؟ ووجهة نظره فيما يخص تأويل آيات القرآن الكريم وهي إشكالية يعلم صديقي "سكر" أنها شديدة التعقيد. ومنها أيضا الاستطراد في رأيه حول منصور الحلاج وهل يتسق مع موقفه من التصوف البدعي أم لا ؟.. إذ اقتصر الباحث على الإشارة لمدى اهتمام مفكرنا بالحلاج حتى انه ألف مسرحية حول سيرته أسماها "مصرع الحلاج". وكان يمكن للصديق "سكر" أن يستطرد أيضا في سرد رأي مفكرنا حول نظرية التطور الدروانية وهي النظرية التي وعلى الرغم من كل الانتقادات التي نالتها لا زالت واحدة من الأدوات التنظيرية التي يستخدمها اليسار في نقاشاته . ولا يفوتنا تناول بعض القضايا الإصلاحية التي طرحها مفكرنا كالموقف من الديمقراطية وهو موقف للحقيقة ووفق ما جاء في بحث "سكر" ملتبس وغير واضح إذ لم يتم الكشف عن مفهوم الديمقراطية أو آلياتها وكيف السبيل لتحقيق نموذج أكثر ملائمة لواقعنا المصري والإسلامي. ولعل من أكثر الإشكاليات التي جاءت ببحث "سكر" هو موقف "جمعة" من المرأة فهو لم يخضع للثنائية التقليدية التي أحدثت حالة من الاستقطاب بين مفكري هذا العصر بل وحتى الآن إذ وفي الوقت الذي يشيد فيه بدعوة قاسم أمين من خلال كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة نراه يرفض ترشحها للبرلمان وتوليها للقيادة السياسية وهي مسألة كانت تحتاج لكثير تفصيل بالفعل من قبل باحثنا "ربيع سكر". كذلك ووفق تصوري فإن أهم أبواب الكتاب هو الباب المتعلق بالمعارك الفكرية لمفكرنا "لطفي جمعة" إذ هي أولا تكشف عن قيمة الرجل في عالم الفكر بالقدر الذي جعله قادرا على الدخول في معارك تنظيرية مع قامات فكرية كبيرة منها طه حسين ومنصور فهمي وعبد العزيز فهمي وسيد كيلاني وغيرهم وهي معارك كانت تتسم بالسخونة الشديدة حينئذ ولم يكن ليقدر عليها إلا متمكن فالمثقفين المصريين آنذاك كانت لديهم حاسة ثقافية عالية ورفيعة. كذلك فقد كان استعراض موقف "جمعة" من بعض المستشرقين الذين التقاهم آنذاك فاتحا الباب لإثارة العديد من القضايا التي يجب أن تناقش من زواية جديدة منها مثلا "المستشرقون والتجسس" والمستشرقون وعلاقتهم بالنخبة السياسية" وغير ذلك مما يمكن تناوله من خلال السير الذاتية لرواد هذه الفترة. ولا أنسى أن أشير إلى أن الكتاب وعلى الرغم من أنه جاء مرتكزا ومتمحورا حول شخصيته "لطفي جمعة" إلا أنه يعد وبحق نافذة جيدة لكل شباب هذا الجيل للاطلاع على ظروف وأوضاع البيئة المصرية آنذاك فضلا عن أهم القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية التي شغلته وكانت ساحة للنقاش والتناظر بين رواده. وفي الختام أراني مدفوعا إلى أن أوصي صديقي الكاتب "ربيع سكر" بالحرص على إصدار طبعة ثانية من الكتاب بحيث تكون أكثر استرسالا في استعراض آراء مفكرنا "جمعة" حاملة في الوقت ذاته رؤية نقدية لهذه الأفكار ورادة على بعض الأسئلة التي ما زالت تدور في خلدي ومنها مثلا.. لماذا في الوقت الذي انتقد فيه مفكرنا "جمعة" الأحزاب السياسية المصرية التحق بأحد هذه الأحزاب؟ ولماذا في الوقت الذي رفض فيه نظام الانتخابات البرلمانية الذي كان يراه غير ديمقراطي تأسف على أن حزبه لم يرشحه لهذه الانتخابات؟ بقي أن أقدم شكري لصديقي "سكر" على أن منحني شرف إدراج اسمي في صفحة الشكر والعرفان بصدر الكتاب فيما أشار إلى شخصي أيضا في مقدمة الكتاب ذاكرا أني من لفت نظره لمذكرات "محمد لطفي جمعة" وإن دل ذلك على شئ إنما يدل على كرم أخلاقه وشدة تواضعه .. أسأل الله عز وجل أن يرفع من قدرنا ويرزقنا تواضعا لأجله الكريم وأن يحسن خاتمتنا جميعا..