نكمل سويًا ما بدأناه عن وثيقة سيلابوس التى توضح علاقة الكنيسة الغربية بالديمقراطية سأبدأ فيما يلى بعرض موقف البطريرق من الدولة، كما ذكر فى البيان. يرى البطريرق أنه وجب اعتبار الفاتيكان مؤسسة حرة ومستقلة عن الدولة، ذات حقوق تشريعية خاصة - اسمها "الحقوق الكانونية" (canon law) - لا يحق لأحد أن يحدها لها، أو أن يفرض عليها أطرًا قانونية لتأديتها، فذلك – بحسب رأيه – يعد تدخلا فى شئونها، وهو أمر باطل لا ولن تقبله. إلى جانب موقف الفاتيكان من الدولة، ورؤيتها لدورها فيه، أدلى بيان بيوس كذلك عن موقف الفاتيكان من الأيديولوجيات المعاصرة التى استجدت فى ساحات أوروبا الوطنية، كالشيوعية والاشتراكية، وموقفه من المجتمعات الحديثة التى نشأت فيها، كالإكليريكية الليبرالية والإنجيلية، وذلك فى كلمة موجزة وغير مهذبة هى: "أوبئة".... هكذا بكل تكبر وتعالٍ ! طبيعى أن يسأل المرء فينا نفسه بعد السابق ذكره، ما رأى البطريرق فى المجتمعات الإسلامية، إذا كانت الإنجيلية لا تلقى احترامًا عنده؟ الإجابة يمكن استنباطها - بحسب ما قرأت - من خلال ما سطره تحت بند الليبرالية، التى نالت منه نقدًا "شافيًا"... طبعًا غير إيجابى. وكيف لنا أن نتوقع منه نقدًا إيجابيًا لها، وهى التى أضعفت دور الفاتيكان فى القارة، ونقلت عموم الصلاحيات التى كانت بيده لشعوبها وقواها الديمقراطية، وسطرت حقوقها المدنية بعيدًا عن مشورته أو مرجعيته ؟ لذلك كان كل ما ذكره البطريرق فى شأن الليبرالية سلبى، يمكن خلاصته فى تهمة مباشرة منه لها هى: أنها سبب رواج المعتقدات الباطلة فى القارة الأوروبية، فسبب فساد أحوالها. من ذلك الفساد الذى نشرته الليبرالية - نقلاً عن البيان: وجوب إقرار الشرعية دستوريًا لشتى "صور تمجيد وتكبير الرب" القائمة لدى المجتمعات غير النصرانية. ب "صور تمجيد وتكبير الرب" يصف البطريرق بصورة مبتزلة – بحسب رأيى- الديانات والمعتقدات غير النصرانية، كالإسلامية واليهودية ...إلخ، القائمة فى المجتمعات الإنسانية أنحاء العالم. يرى البطريرق أن إقرار الشرعية لها، كما هو الحال مع الكاثوليكية على أرض القارة الأوروبية - الأمر الذى تنادى به الليبرالية تحت شعار تأمين حرية المعتقد للجميع - فكر باطل. كذلك يرى البطريرق فى حق تلك المجتمعات غير النصرانية، أنه وجب أيضًا إلى جانب عدم إقرار الشرعية لمعتقدها على أرض القارة الأوروبية – بدعوى أنها كاثوليكية - عدم السماح لها أيضًا إدارة مؤسسات عامة فيها، فذلك – كما يفهم من بيان البطريرق – سيساهم فى نشر فكرها وثقافتها فى مجتمعاتها، الأمر الذى يهدد صفاءها وانقسام وحدة نسيجها، فنشر وباء أسماه "اللامبالاة" (Indifferentismus) فيه. مما وجب ذكره فى موضوع "اللامبالاة" السابق ذكره، الذى خص له البطريرق بندًا كاملاً فى بيانه، لأهميته وخطورة شأنه عنده، شهادة البطريرق فيه القائلة :" إن من الأفكار الخاطئة المنتشرة لدى العامة، إعتقادها بأنها تملك حرية اختيار معتقدها بعقلانيتها". يرى البطريرق أن ذلك أمر غير كافٍ لموضوعه. كلما تأملت هذا التصريح قلت لنفسى: أوليس هذا الذى شهدناه يطبق فى مصر، فى عهد مبارك وشنودة الثالث، فى حق وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة ومارى منيب وكافة أسرى الكنائس المصرية؟...حفظهم الله. بإذن الله سيكون من مغانم الثورة إقامة العدل الذى عرفناه فى الإسلام والليبرالية، وكذلك فى النصرانية الحقة، التى كانت بالأمس - لما كانت بعيدة الشبه عن الفكر الفاتيكانى المتطرف وبعيدة عن الساحة السياسية – بخير. عموما لم يأت بيان سيلابوس "الجامع للبواطل" لشعوب القارة بجديد. ففكر الفاتيكان – وعموم كنائس الأرثوذكسية فى حاضرنا - المناهض لها ولمسيرتها الحضرية ليس بجديد. فمنذ الأزل وسعى الكنيسة الرومانية للسلطة وحكر الساحة السياسة - بزعم أنه حق أصيل لها - معروف. أمر أكده البطريرق فى بيانه أيضًا، إذ ذكر فى إحدى بنوده، أن عزل الكنيسة عن شئون الدولة وقضاياها إحدى التصورات الباطلة لدى العامة. لذلك أدعو متطرفى الأرثوذكسية، الذين يستصرخون اليوم أيضًا ذات القوى الرجعية لإعانتها على "ظلم" السياسات والنظم الإسلامية، أن تراجع نفسها أيضًا من سوء صنيعها، الذى لن يعود عليها أيضًا سوى بالسخط والاستنكار، الذى لقيه البطريرق بيوس على قارته من كافة قواها الشعبية، الأمر الذى دفعه إلى عزلها، ولأن يحى فيها آخر عمره وحيدًا فى المعزل الذى اختاره لنفسه. [email protected]