لقد إشتد غضب وحنق الناس على ولاتهم، ما شهدوا منهم عقودا إلا السوء، لم تشهد أوضاعهم فيها إلا التردى. ما عرفوا بهم سبيلا لرغد العيش، لكن دنيا ضاقت عليهم، ومعها أمالهم وطموحاتهم فيها حتي حصرت في لقمة عيش شحيحة - إن وجدت - لا تغني ولا تسد من جوع، فما كفت حاجاتهم، ولا أسكنت نفوسهم ... يصبحون ويمسون في إضطراب وتقلب ... فالحياة تفتقر لأسباب الطمأنينة والإستقرار، فهي في صراع مستمر ... لم تشهد عمومها سوى البؤس والعناء والقهر والظلم ... لقد عانوا الكثير الكثير ... ولا حياة لمن تنادي، فلا أذن صاغية لأناتهم، ولا سبيل لها إلى ساداتهم، لقد علوا وأستكبروا في الإرض، فأثروا محياهم في عزلة عنهم ومنعة منهم ، حتى إنقطع التواصل بهم ، وأخيراُ الإحساس بالمسؤولية إتجاههم، وعلام ؟ فهم ليسم بأهل ذلك، إنهم طبقة دنية، من الدرجة الأخيرة، لا أولى ولا ثانية، بل ثالثة، لا تملك إلا ما يقدر لها من "عطايا برلمانية" - إذا إجتمع - ولا سبيل لهم للرجوع عليهم في شأنها. فإذا سمع لهم إستنكار، قيل عنهم مشاغبون غوغائيون، وردوا بقبضة أمنية إلى حجرهم. فكان قدرهم محتوم، تارة بالقانون، الذي يمثله ويصدقه راعي الدولة وحده، الملك، وتارة أخرى بالوصاية ، المفروضة من الكنيسة على الشعب بإسم الرب ، الذي أرهبت شعوبها به، بعد أن سكنت إلى طغاتهم، وإطمأنت بهم على مصالحها، دون أن ترعى في ذلكم لرعيتها ومحيطها إلا ولا ذمة ... ولكن هيهات ... من زرع حصد ... وما حصدوا إلا ما زرعوا ... معارضة شعبية ، إجتمعت على الإصلاح، سعت له بكل ما أوتيت من قوة حتى أصبحت كياناً يبطش ولا يبطش، وصوت يسمع ولا يكتم ... الحديث اليوم عن الثورة الفرنسية، الثورة على الأعراف الجائرة والقيم الفاسدة، التي ما عاد الشعب يتحملها، فتنادوا أجمعين أن أغدوا لحقوقكم مطالبين. الثورة الفرنسية قامت في كيان سياسي لم تسمح أطره لشعوبها أي مشاركة فعلية في تقرير مصيرها فمسارها، ذلك بأن النظام الإجتماعي الكائن له ما كان ليدع مجال لذلك، فهو أرستقراطي العرف، فمفرق الناس لطبقات، عموماً ثلاث، في شكل هرم تراتبي، قمته الطبقة الأولى، يمثلها الملك كأعلى سلطة دنيوية للبلاد وراعي الكنيسة كممثل الرب في العباد - حسب زعمها ، وسطه الطبقة الثانية، يمثلها رجال الكنيسة (الكليروس، Klerus) والنبلاء الموالون للملك، عموماً سند النظام القائم وعضده، وقاعدته الطبقة الثالثة، يمثلها عامة الشعب. إنه لنظام بدائي لدولة، ولكن بالنسبة لأوروبا في القرون الوسطى، كان ذلك بداية عهدها في تشكيل نظام سياسي جامع للمجتمع، فعكس بادىء الأمر القيم المتبناة في مجتمعها وثقافتها وعقيدتها، الذي كان نصيب العامة فيه من الحق والعدل معدوم، أما الواجبات فلا حصر لها، لقد كانت تفوق طاقاته وقدراته، فهناك ضرائب الدولة، وضرائب الكنيسة ، فالخدمات العامة، إما الواجبة تجاه النبلاء الذين كانوا يستعبدون الناس في الأرض بحكم أنهم ملاكها، أو المفروضة كالخدمة العسكرية الجبرية. لقد كان نظاما متجبرا على المستضعفين، يحكم بالنار والحديد ، يحسب أن لا يقدر عليه أحد، لكن هيهات، إن ربك لبالمرصاد. فمع تفاقم أحوال الدولة، فإنهيار إقتصادها وغلاء المعيشة وإهمال النظام لشؤون رعيته مع الكم من التكاليف التي ألزموا بها، علت الأصوات المنددة له والمطالبة بالتغيير ... من إلغاء الملكية المطلقة، وإمتيازات الطبقة الارستقراطية، والنفوذ الديني الكاثوليكي. فكانت صحوة إلى الحق والعدل، سميت بالتنوير، لاقت قبولا شديدا أرجاء البلاد، إنصهرت له العصبيات، فما عاد نزاعها أو تقاتلها على الهوية، أكاثوليكية أم بروتستانتية، وما عاد شاغلها الباباوية أو الإمبراطورية، بل الحرية الحرية. أعدوا لأجلها العدة والعتاد، فدوى أمرها أرجاء البلاد. لما أدرك عظم أمرها المتجبرون الإرستقراطيون، خرجوا من معزلهم إلى الشعب عام 1789م، لتدارس سبل تدارك الأزمة معهم في البرلمان (المجمع الوطني)، الذي عطلوه ما يقرب المائة وخمس وسبعون عام. من أبرز الشخصيات التي سطعت فيه ولعبت دورا محوريا بداية تأسيس الدولة المدنية الحديثة لفرنسا كان روبيس بيير (Robespierre). لقد طالب البرلمان بحزم تعديل القيم الإجتماعية والأعراف السياسية. فناشد المجمع الوطني منذ بداية عقده كفل الحقوق الطبيعية والمدنية لعامة الشعب، فحق التصويت للعامة (المرأة كانت في ذلك الزمن منه مستثناة)، فلا تمييز فيه لعقيدة أو لثقافة أو لدخل الفرد أو نسبه، وإسقاط إمتيازات الكليروس والنبلاء. كذلك طالب بالحرية الصحفية، وإنهاء إستعباد البشر في "المستعمرات" الأوروبية حول العالم. لقد طالب رد الحقوق والنصاب لأهلها، الأمر الذي كان يرجى أقله من العقول الحصيفة للكنيسة أن تقوم بها، لكنها سكتت عليه ولقرون، فنالت من رعيتها السخط والإستنكار، المرة تلو الأخرى على مر العقود، كان أخر وأشد مظاهره، ما نالته من شعب الثورة الفرنسية من نكال، الذي ما أن أدرك مقاليد السلطة حتى خون علانية أمرها، لموقفها المخالف منه والمعادي لفكره، فالنظام الجديد المستحدث بإسمه. لذلك أجمع المجمع الوطني عام 1790م على فرض القساوسة لأداء يمين ولاء للدولة ، فعلى نظامه المستحدث، من إمتنع عنه كان يخون فيفنى أو يقتل. فباتت الكنيسة اليوم، بعد أن كانت لها في أول عهدها السلطة والمنعة والهيبة والإحترام ، كيان مشبوه ومطالب على أرضها أخره. والسبب، محصلة المخالفات والمتناقضات العقدية التي شهدها مجتمعها منها وفيها، ولجملة جرائمها التي صدرت منها في حق الإنسانية، من ترويع المفكرين إلى إضطهاد وحرق المخالفين، وإسناد الطغاة على المستضعفين، ناهيكم سجلها مع النساء، اللاتي منعن من كافة الحقوق، فهم موصوفون بضعاف النفوس، فغاويات، الشيطان لهن قرين، بل هم خير عوان للشياطين، فسبب إستدراج أدم للمعصية، فهبوطه وذريته من الجنة ، فالوصاية فيهن واجبة – حفظكم الله يا كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين وكل ضحايا الكنيسة - فبات أمرها عند العامة مكروه ، وولائها للدولة في محل سؤال، أهو لها ولرعيتها أم لروما وإمبراطورييها ؟ فغلقت الثورة أبوابها، وصادرت كافة ممتلكاتها، ولكن أنى شفى ذلك غلها، فصادرت عام 1793م الحرية العقدية من دستورها لإستئصال شأفتها، فحظرت كيانها وشعائرها، وعمدت على محو معالمها، بل إقامة ثقافة بديلة لها، التنوير رايتها، دعواها إحلال العقل مكان الرب /1/. ما توقف العداء للكنيسة إلا بعدما إعتلى نابليون الحكم عام 1799م فوقع بإسم الدولة معها عام 1801م معاهدة، مما نصت أن الفاتيكان يقر بالجمهورية الفرنسية (لا الإمبراطورية)، وأن ديانة أغلب الفرنسيين تنتمي للكاثوليكية، فما عادت الديانة الكاثوليكية الديانة الرسمية للدولة كسابق العهد /2/. صدق بابا الفاتيكان بيوس السابع (Pius VII) المعاهدة، فكان ذلك نصرا عظيما للتنويرية العلمانية، التي فصلت شوكة الدين الذي عرفته عن الدولة، فحررتها من "الوصاية الربانية" والعقلانية الدوجماتية إلى الحرية الفكرية والعقلانية العلمانية، فكانت أكبر إنتكاسة للكاثوليكية منذ إقامة كيانها في أوروبا. لذلك كانت الكنيسة الكاثوليكية في روما تعتبر الديمقراطية عدو لها، ولعلها ما زالت كذلك عند بعض أفرادها. ... ما أشبه اليوم بالبارحة ! حكومة لا غالب لها إلا الله ، ومعارضة من نبلاء، لها شرعية بإسم الولاة ، والكليروس على الباب، ينتظر كوتة "الأقباط"، سبقته المرأة إليه "بالقبقاب"، وشعب ، لا حول ولا قوة له، الجوع يأكله والهم يشبعه، لا يمثل جزء منه إلا فئة مستقلة في البرلمان، لا عزة له ولا سلطان، ولا حول ولا قوة إلا بالله . أين دعاة التنوير في زمننا هذا من كل ما يحدث على أرضنا ؟ كان يفترض أن يكون هذا عصرهم الذهبي، فينادوا فيه بالحرية والعقلانية، ويستنكروا على أرض مصر الهرطقة الأورثوذكسية، فإضطهاد المفكرين وحجر حقوق المخالفين. لقد كشف سكوتهم حقيقة أمرهم، وأن ما يشيعونه من فكر، التنوير منه بريء، فلا يمثل إلا غوغاء، ففساد وعداء، على ثقافة شعب مسالم، عرف بفضل الإسلام الحرية، و بفضل تعاليمه أسمى أنواع العقلانية، واحدة لا تتعارض مع الربانية، ولا محل فيه للدوجماتية، فلا روع مجتمعها المفكرين أو إضطهد أو حرق المخالفين، وما إحتاج لحركة تنويرية أو دستور مناهض للشريعة السماوية، ولا أيديولوجيات تصحيحية، عقدية كالبروتستانتية أو علمانية كالتنويرية والشيوعية والفاشية، مسيرات شعبية تبحث عن هوية، ليسكن ويستقر بها الحال ... هداهم الله ... والحمدلله على نعمة الإسلام، دين التسامح والسلام، عكس ما هو مشهود له على الساحة الدولية من أديان. أب كاثوليكي يسب نبي الإسلام، وأخر يحجر حقوق النسوان، وقساوسة لهم تتوعد بحرق القرأن، فأين التسامح فيهم وفي معتقداتهم ؟ أتصلح قدوة للعوام ؟ أبدا، لن يقتدى المسلمون بها ، فذلكم الإرهاب الذي أمن مجتمعه على كافة أطيافه منه، فعاش في أمان وسلام. تلك أخلاق ليس لها محل في أعرافنا ولن تسطر في تاريخنا ، فهي ليست من تعاليم ديننا، ولن نقبل أو نسمح أن ينشر مثل هذا الفكر فينا أو أن يظهر على أرضنا، أرض الله، فالعدل والسلام، لا أقباط أو فراعنة أو رومان، تلك نزعة عصبية، عرفها المسلمون بالجاهلية، لا يمكن أن تقوم عليها حضارة جامعة للإنسانية كالتي شهدها المجتمع المصري تحت المظلة الإسلامية، بل العكس ثقافة جاهلية ذات أفق محدود، تتنازع على هوية وحدود، فلا تدعو للتسامح والإنصهار، بل الفرقة إلى طوائف وعصبيات وأوطان، كما شهدتها القارة الأوروبية في القرون الوسطى. ننصح الكنيسة الأورثوذكسية أن تتعظ من التاريخ الأوروبي، فإرهابها للمرتدين وطغيانها على المستضعفين بجبروتها والمتجبرين لن يأتي – كما بان التاريخ – إلا برد فعل مستنكر لها، وردة مجتمعها عنها. عليها أن تتعلم من التاريخ النصراني الأوروبي أن تسمع لشكاوي رعيتها الذين ما إنفكوا يرجونها لتصحيح فكرها ومسارها حتى يئسوا منها فكفروا بها وأثروا الموت عن الإنتماء لها. لن يفيدك الإرهاب أو الغوغاء للم مجتمعك والحفاظ على رعيتك، لسنا في القرون الوسطى الأوروبية أيها السادة، حتى لو كان الجو الشائع في الدولة يوحي بذلك ، وقدمتم فيه مثالا له ، فالأمور الظاهرة على أرضه لا تعكس واقع حاله ، بل سوء أمره. تذكروا فضل الإسلام عليكم وعلينا، كيف حررت جيوشه الأقباط من الرومان، فحيا شعب مصر تحت مظلته منذ عام 641 م في أمان. تذكروا ما كان أمركم سيؤول إليه تحت سلطة الرومان أو في العصور الوسطى بعيدا عن عدل الإسلام. لو خيرتم في ذلك الزمان بين جزية وأمان أو ضريبة الأعشار للكنيسة والطغيان، ماذا كنتم ستختارون؟ فعن أي ظلم تتحدثون؟ يتعلم أطفال ألمانيا في المدارس، في مادة التاريخ، في المرحلة الإبتدائية ( الفصل الخامس والسادس)، أن الكاثوليكية إنتشرت في الإمبراطورية الرومانية على يد كارل الأول (شرلمان، 800م) بالإكراه /4/. كذلك يذكر تاريخ تلك القارة كيف كانت الكاثوليكية للبروتستانتية - الفكر والمعتقد المخلف لها - لمئات السنين بمنطق الإرهاب بالرمصاد. أفلا تتفكرون في كل ذلكم لأمركم، فالصورة التي تقدمونها عنكم ، الذي سيسطره التاريخ لكم ؟ وأين أنت من الأحداث أيها الأزهر الشريف. سكت على حقوق رعيتك، فوقفت تشهد قتلها، المرة تلو الأخرى، بداية مع وفاء قسطنطين واليوم مع كاميليا شحاتة. كيف ستبررون أمام الله أن الحاجة لدرأ الفتنة الطائفية تطلبت أضحية. فهل يجوز شرعا لدرأ الفتنة الطائفية ذبح قرابين لها ؟؟؟ ما لكم كيف تحكمون ؟؟؟ أين أصبحتم من حقوق الإنسان ؟ إذا كنتم لا تستطيعون ان تحاجوا ولاتكم بدينكم، فحاجوهم بالدستور الأوروبي أو الدولي الذي يستنكر الكثير من العوار القائم والمستحدث في دستورنا. إدرسوه لعله خير لكم ولنا. سوف تدركون عند مطالعته، أنه لا مجال للفتنة الطائفية في دولة يحكمها القانون، فعما تتحدثون ؟ بإذن الله سنحاجكم أمام الله بما تقولون. كلمة أخيرة للكنيسة الأورثوذكسية ، لن يفسد سوء صنيعك لمصر والمسلمين، الود بيننا والنصارى غير الأثمين، فالخير في أهلك معلوم ، لكن حاله اليوم كحال المسلمين ، عموما غير ظاهر على الساحة. نسأل الله أن يكرم شعب مصر، ويهدي ولاة أمورها لما فيه صلاح أمورنا ... الساعة قد حانت وعلاماتها بانت، فتوبوا إلى الله. [email protected]