كانت ردود الفعل نحو مناداة أمريكا بالديمقراطية في الشرق الأوسط فاترة في أفضل الأحوال. فالحكومات العربية تشعر بالاستفزاز الذي احتوته المبادرة التي أعلن عنها الرئيس جورج دبليو بوش، خاصة وقد خرج بها علينا بعد قليل من المشورة الإقليمية. وسعياً إلي استباق التحرك الأمريكي، فقد بادرت مصر إلي تأييد اقتراح مضاد، والذي تمثل في إعلان الإسكندرية الذي صدر في إطار قمة الجامعة العربية في شهر مايو الماضي. ثم أعقب ذلك إعلان الرئيس حسني مبارك مؤخراً عن سماحه لمرشحي المعارضة بتحديه علي منصب الرئيس في الانتخابات الرئاسية القادمة. أهذا مجرد تكتيك آخر من تكتيكات المماطلة، أم فرصة للإصلاح الحقيقي؟ من الواضح هنا أن الانتخابات الأخيرة التي جرت في العراق وفلسطين، علاوة علي الاحتجاجات العارمة ضد التأثير المُشَوِّه للوجود السوري علي الديمقراطية في لبنان، قد أدت إلي إعادة الحياة من جديد إلي الحوار بشأن الإصلاح السياسي داخل مصر. ولقد أكد أعضاء المعارضة أن البلاد مضطرة إلي إصلاح نفسها قبل أن يُفْرَض عليها الإصلاح من الخارج. بل إن المدير الإداري لإحدي الصحف يزعم أن تأخير الإصلاح السياسي والدستوري، الذي اعتبره وكأنه هدية أو منحة للمواطنين وليس حقاً من حقوقهم قد يشجع علي التدخل الخارجي في الشئون الداخلية لمصر. كما يدعي نفس الشخص أن الديمقراطية في المنطقة العربية قد أصبحت الآن الشغل الداخلي الشاغل في الولاياتالمتحدة، الأمر الذي سيجعل من الصعب علي الرؤساء الأمريكيين أن يغضوا الطرف عن مفاسد الأنظمة العربية الصديقة كما كانوا يفعلون في الماضي. لقد حرمت الحكومات الاستبدادية في العالم العربي مواطنيها من الحريات السياسية، والمدنية، والفكرية لعقود من الزمان. كما أن القنوات الطبيعية للمشاركة السياسية كانت مغلقة أمام شباب المواطنين، وأنصار التيار الإسلامي منهم علي نحو خاص. ونتيجة لهذا فقد انجذبوا إلي الحركات السرية المتطرفة. ولقد أدي الفقر، والمحسوبية، وفساد الدوائر الرسمية إلي تفاقم هذا الشعور الشعبي بالإحباط. وسط هذا المناخ، بدأ الزخم نحو الإصلاح السياسي والدستوري في مصر يستجمع قواه. وهناك حنين شديد إلي آخر تجربة ليبرالية شهدتها مصر (التي امتدت منذ عشرينات القرن العشرين وحتي قيام ثورة 1952)، والتي كانت نموذجاً اقتدت به دول عربية أخري. آنذاك كانت الحياة السياسية النابضة بالنشاط، والصحافة، والثقافة الليبرالية المتحررة في مصر تلقي الدعم والتأييد من إيديولوجية قوامها القومية العلمانية والانسجام الديني. في ذلك الوقت كانت الديمقراطية البرلمانية ذات التعددية الحزبية تنبض بالحياة، وكان النظام القضائي ينعم بالاستقلال، كما شهدت مصر آنذاك واحدة من أقدم حركات تحرير المرأة في العالم. حتي اليوم ما زالت إنجازات وطموحات تلك التجربة الليبرالية تعمل علي الربط بين المصريين الذين يؤيدون الإصلاح. كما كانت تلك الإنجازات والطموحات بمثابة الإلهام الذي أدي إلي ميلاد حزب سياسي جديد، وهو "حزب الغد" الذي أسسه برلماني شاب ملتزم بالإصلاح الديمقراطي. ويرفض الحزب الحجة القائلة بأن الديمقراطية ستؤدي إلي دعم وتعزيز التطرف الإسلامي، كما يزعم الحزب أن تأخير الإصلاح هو ما يشكل المصدر الرئيسي للخطر. انتهي حزب الغد مؤخراً من وضع مسودة دستور تتألف من 48 صفحة، وتهدف إلي إنعاش الحياة السياسية الراكدة في مصر. ونستطيع أن نقرأ الفقرة التمهيدية لهذه المسودة، والتي تبدأ بعبارة "نحن، شعب مصر..."، باعتبارها هجوماً قاسياً علي النظام السياسي القائم حالياً في مصر، وهي تدعو إلي وضع حدٍ للخوف والطغيان. من بين المقترحات التي تطرحها الوثيقة وضع نهاية لحكم الطوارئ المفروض منذ اغتيال الرئيس أنور السادات في عام ،1981 ولقد نتج عن حالة الطوارئ هذه، والتي تبدو بلا نهاية، التقييد الصارم للحريات الفردية والسياسية، أو حتي تعطيلها تماماً. وتتضمن الفقرات الأخري تقييد السلطات والصلاحيات الواسعة النطاق التي منحها دستور عام 1971 للرئيس، وإجراء انتخابات رئاسية مباشرة يتقدم إليها أكثر من مرشح. إن مسودة الدستور هذه من شأنها أن تحول مصر إلي جمهورية برلمانية. أما الحزب الوطني الديمقراطي المهيمن فينظر إلي الأمر من زاوية أخري، حيث يؤكد إمكانية تحقيق التغيير السياسي دون الحاجة إلي الإصلاح الدستوري. ويبدو أن الحزب الوطني الديمقراطي يؤمن بأن التحول إلي الديمقراطية لابد وأن يبدأ بتغيير الثقافة السياسية وغرس القيم الديمقراطية. ومن المفترض أن تكون هذه الخطوات سابقة علي إصلاحات قانونية ودستورية راسخة، مثل تلك التي يقترحها حزب الغد. لكن الحزب الوطني الديمقراطي قد فَوَّت حتي الآن كل فرصة ممكنة لاكتساب التأييد الشعبي من خلال اقتراح برنامج للإصلاح يهدف إلي إيجاد زيادة حقيقية في المشاركة الشعبية. وهذا من بين الأسباب التي أدت إلي فشل دعوة الرئيس مبارك إلي عقد انتخابات رئاسية متعددة المرشحين في جذب اهتمام جمهور الناخبين في مصر. والحقيقة أن الحكومة تفضل تقديم مبادرات جوفاء تركز بشكل محدود علي الاقتصاد. لا ينبغي لهذا الصراع بين هاتين الرؤيتين للإصلاح أن يحجب حقيقة وجود إجماع عام في مصر علي ضرورة إيجاد نوع ما من الإصلاح الجوهري الذي طال انتظاره. ولابد في المقام الأول أن ندرك أن الأصوات الليبرالية في مصر ليست مجرد استجابة للمبادرات الديمقراطية من جانب الولاياتالمتحدة. بل إنها تمثل تحدياً نابعاً من أصل وطني في مواجهة نظام سياسي راسخ، وهي أصوات تعتلي موجة تاريخية عارمة.