اقتراح الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عقد مؤتمر دولي يحث على إطلاق مسيرة المفاوضات والتسوية في موضوع «النزاع» الإسرائيلي مع الفلسطينيين وعدد من الدول المجاورة ليس جديداً من زاوية محتوى الاقتراح. ولكنه جديد كل الجدة بالنسبة إلى مواقف إدارة بوش من عقد مؤتمر دولي بهذا الصدد.
فالكل يذكر أنه خلال السنوات الأربع الماضية تقدمت عدة دول بمبادرات لعقد مؤتمر دولي لبحث الموضوع الذي يسمى «نزاعاً» أو ما شابه «تجنباً لتسميته "القضية الفلسطينية" أو الاغتصاب والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ولنتجاوز هذه النقطة المتعلقة بالتسمية». فكل من روسيا وفرنسا وبريطانيا والسلطة الفلسطينية ومصر وجهات أخرى تقدمت بمثل هذه المناورة في أكثر من مناسبة. ولكن إدارة بوش كانت ترفضها هي والحكومة الإسرائيلية رفضاً حاسماً وتغلق حتى باب المناقشة حولها.
فما الذي استجد حتى غيرت إدارة بوش واحدة من «ثوابتها» السياسية المتعلقة بالموضوع الفلسطيني، ولو جاء التغيير شكلياً لأن عقد مؤتمر دولي مجرد شكل من الأشكال في إدارة الصراعات الدولية، خاصة عندما يتعلق بالموضوع الفلسطيني.
الجواب يمكن أن يقرأ، بداية، من خلال الفشل الذي منيت به استراتيجية الإدارة الأمريكية على مستوى ما أسمته تزويراً جغرافياً: «منطقة الشرق الأوسط الكبير» فهذا الفشل تجلى أول تجلى في المأزق الذي دخلته في العراق بعد العدوان العسكري عليه واحتلاله، فهي الآن لا تعرف كيف تخرج من حرب أصبح النصر العسكري ميؤوساً منه فيها. وهذا مصير حرب القوى العظمى حين تصطدم بالمقاومة والممانعة الشعبيتين.
ويتجلى الفشل الأمريكي في فلسطين، وفي لبنان لأن كل فشل إسرائيلي هو فشل لإدارة بوش بامتياز. فمن مظاهر هذا الفشل في فلسطين ما نجده في صمود الانتفاضة والمقاومة، وفي قرار الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات منه، ثم في صناديق الاقتراع التي أعطت حماس أغلبية كبيرة في المجلس التشريعي وأوصلتها إلى رئاسة الحكومة، وهي المتهمة أمريكياً بالإرهاب. وأضف ما حدث من فشل للحصار الذي تعرض له الشعب الفلسطيني متمثلاً بعدم الرضوخ للعدوان وباتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية.
أما الإخفاق المدوي قاصم الظهر فقد جاء من خلال هزيمة الجيش الإسرائيلي، أمام المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله «والمتهمة أمريكياً بالإرهاب أيضاً»، ويكفي أن نستعيد تصريح كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في الأسبوع الأول من العدوان الإسرائيلي في 12 يوليو 2006 على لبنان بأنه مخاض لولادة الشرق الأوسط الجديد، وكيف انتهى في أن يكون الضربة القاضية للمشروع الذي لم تعد إدارة بوش تأتي على ذكره.
لو أضفنا هذه الإخفاقات وغيرها إلى انعكاسها في الداخل الأمريكي كما عبرت عن ذلك الانتخابات النصفية الأخيرة لمجلس الكونجرس، والاستطلاعات التي نزلت بشعبية بوش إلى الحضيض لما بقي هنالك من جدال حول فشل استراتيجية إدارة بوش «الشرق أوسطية».
وبهذا يكون اقتراح المؤتمر الدولي بما يمثله من تراجع أمريكي عن ثابت ورفض كل الاقتراحات المماثلة، يعبر عن الهروب من نتائج الفشل الأمريكي الخطير، والذي كان له ارتداده على الوضع الدولي، كما تدل على ذلك مواقف بوتين الرئيس الروسي الأخيرة، أو المتغيرات في أمريكا اللاتينية.
انه إذن هروب إلى أمام. ولكن إلى أين؟ وكيف؟ وبأي نصيب من النجاح؟ الجواب في التعليقات أو التوضيحات الأمريكية التي تلته، وقد جاءت لتؤكد أنه اقتراح مبني على الارتباك والارتجال من حيث موضوعه، مما يسمح بالاستنتاج ان هدفه غير ظاهره. بمعنى أن المقصود منه ليس بحث الموضوع الفلسطيني للتوصل إلى «تسوية» وإنما تشكيل مناخ يساعد على الحرب التي يُعد لها ضد إيران، وبهذا يدخل ضمن سياسة التمهيد للعدوان كما سبق ودخل «مشروع حل الدولتين» أو تشكيل الرباعية وغيرهما تحذيراً للوضع العربي في العدوان على أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان.
من هنا يمكن القول، بالإضافة إلى أن هذا الاقتراح هروب من تداعيات فشل استراتيجية إدارة بوش، إن الهدف من ورائه هو التحضير للحرب التي زاد من احتمالها غلبة مجموعة ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي داخل الإدارة الأمريكية، كما توحي عدة مؤشرات أو أخبار.
المأساة جاءت من ردود فعل عدد من الدول العربية، ومن أمانة الجامعة العربية، وذلك بتأييد المبادرة قبل أن تتضح ملامحها، هل هو مؤتمر دولي أم لقاء أم اجتماع، وما هي الأجندة،؟ ومن الذين سيشاركون فيه؟ والأنكى ما سوغ به ذلك التأييد أو الترحيب بالإيحاء أن ثمة عناصر إيجابية فيه، بدلاً من أن ترى تلك العناصر باعتبارها فتاتاً، أو طعماً مسموماً، أو فخاً لصيد ترحيبهم.
ومع ذلك فإن المبادرة «طبخة بحص» من حيث نتائجها في الموضوع الفلسطيني، وإذا كان لها من دور، ففي غير هذا الموضوع: الهروب من الفشل، التحضير لحرب، التطبيع.