لقد واكبت بداية تواجد سفارة لإسرائيل فى القاهرة مشاهد حية لمُظاهرات واحتجاجات من أقصى شمال مصر إلى جنوبها ، تكللت هذه الاحتجاجات بمقتل بطل حرية التعبير عن الرأى " سعد إدريس حلاوة " الذى استشهد فى ذلك اليوم. ففى يوم الثلاثاء 26 فبراير 1980 بعد فترة زمنية من توقيع اتفاقية كامب ديفيد ، ووفقا لما فرضته من سياسة التطبيع ، قرر الرئيس الراحل أنور السادات استقبال " الياهو بن يسار " لاعتماده أول سفير لإسرائيل فى القاهرة ، وفى تلك الأثناء ذهب شاب من أبناء قرية أجهور الكبرى مركز طوخ محافظة القليوبية ، اسمه " سعد إدريس حلاوة " البالغ من العمر فى حينه 28 سنة ، إلى المجلس المحلى بقريته ، وحمل معه سلاحاً وراديو ترانزستور ، استخدم سلاحه فى احتجاز بعض الموظفين بالمجلس ، لكى يلفت الأنظار لقضيته ، ورغبة منه فى رفعه صوته قام بإدارة الأغانى الوطنية عبر الميكرفون ، ونجح فى تجميع أهالى قريته ، واتهم الرئيس الراحل بالخيانة معلناً رفضه لاستقبال السفير الإسرائيلى فى مصر ، واصفاً ذلك الحدث بالعار الوطنى ، ولم يمتثل لطلب القوات الأمنيه بتسليم نفسه وإطلاق صراح الرهائن ، فأطلق عليه أحد القناصة المصاحب لأكثر من 20 سيارة أمن مركزى ، وأصيب فى مقتل ليكون أول شهيد رأى يعترض على وجود السفير الإسرائيلى فى مصر . وحينما اختارت إسرائيل مقر سفارتها بالقاهرة كان ذلك بحسابات دقيقة ، حملت بُعداً استراتيجياً صهيونياً ، حيث إن تحديد الموقع على شاطئ النيل تم لاعتبارات عقائدية ، تكمن فى أن حدود دولتهم المزعومة من " النيل إلى الفرات " ، لأنها تعتبر كل ما هو شرق النيل تابعا لها ، فى إشارة إلى حلم إسرائيل الكبرى ، وهى رمزية ثوابت سياسية تعمل إسرائيل على تحقيقها ، منذ انعقاد المؤتمر الصهيونى فى سويسرا سنة 1897 ، والذى ترسخت فيه فكرة وهدف " تيودر هرتزل " بإقامة دولة صهيونية كبرى ، تمتد من النيل إلى الفرات ، حسبما يزعم الصهاينة أنه جاء فى التوراة وفق التعاليم اليهودية . ولما جاء موقعها يطل على جامعة القاهرة كان حلم إسرائيل هو التطبيع البصرى لطلاب الجامعة ، ليروا العلم الإسرائيلى ذهابًا وإيابًا من وإلى الجامعة ، كى يتعودوا على واقع جعل المرارة فى حلوق معظم الشعب المصرى طعم دائم ، لكنه كان يتوارى فى ظل حكومتى أنور السادات والمخلوع حسنى مبارك ، خوفاً من بطش وقهر السُلطات الأمنية ، وحرمان الشعب المصرى من حق حُرية التعبير عن الرأى . ولكون مقر السفارة أعلى عمارة مُرتفعة كان من السهل التجسس باستخدام آليات تكنولوجية متطورة ، وكشف كل الأماكن المُحيطة بفضل كاميرات حديثة ، كما تحقق لها الجانب الأمنى لسنوات طويلة ، لموقعها على ناصية دون وجود ساحة أمامها ، الأمر الذى يجعل من الصعب التظاهر والاحتجاجات أمامها ، ولولا أن مصر اختارت عقد اتفاقية سلام عقب انتصارها فى حرب السادس من أكتوبر 1973 ، ولو لم تكن البروتوكولات الرسمية تقتضى تواجد تمثيل دبلوماسى لإسرائيل ، لما تمكن " إلياهو ابن اليسار " أن يحلم أن يكون أول سفير إسرائيلى بالقاهرة فى يوم الثلاثاء 26 فبراير 1980 ، ولا أن يرتفع العلم الإسرائيلى فى إحدى فيلات حى الدقى بمحافظة الجيزة ، قبل انتقالها غرب النيل فى العمارة الشهيرة . وليس حقيقة أن إسرائيل قررت نقل سفارتها بسبب أحداث المظاهرات الاحتجاجية التى تفجرت أمام السفارة فى يوم الجمعة 19 أغسطس الماضى ، حيث كانت بداية قرار انتقالها من العمارة الكائنة بشارع أنس بن مالك غرب النيل فى الربع الأخير من عام 2010 ، بعدما تزايدت عدد تقارير من الاستخبارات الإسرائيلية ، أكدت تنامى غضب الرأى العام المصرى بسبب ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات وحشية على الشعب الفلسطينى ، وفى شهر ديسمبر من ذلك العام بدأ أعضاء من سفارة إسرائيل فى البحث عن مقر جديد ، وبالفعل حدثت مفاوضات حول شراء فيللا مملوكة لأحد البنوك فى شارع أمريكا اللاتينية بجاردن سيتى ، إلا أنها تراجعت بسبب ارتفاع سعرها . أما الشهيد سعد حلاوة فقد كان رمزًا سيبقى حياً فى ذاكرة الأمة ، وهو الذى احتل صدارة الإعلام الدولى لجرأته فى نزع حق الاحتجاج العلنى الذى دفع حياته ثمناً لها ، والذى قال عنه نزار قبانى فى مرثية بعنوان صديقى المجنون: " إن سعد إدريس حلاوة هو أول مجنون عربى لم يحتمل رأسه رؤية السفير الإسرائيلى يركب عربة تجرها الخيول إلى قصر عابدين فى القاهرة ، ويقدم أوراق اعتماده إلى رئيس جمهورية مصر ، هذا هو مجنون مصر أو مجنون الورد.. التى تناقلت وكالات الأنباء قصته باهتمام كبير فى حين قرأ العرب قصته كما يقرأون قبل النوم قصة مجنون ليلى ".. فبعد أكثرمن 30 سنة طردت روح حلاوة السفارة من العمارة ، ليقع خيارها على مقر جديد فى حى " مون فالى " بالقاهرةالجديدة . [email protected]