رأيت الله تعالى في نفسي قبل أن أراه في جميل صنعه لجميلي البشر وللكون من حولي، وحتى حينما حاولت الاعتماد على عقلي وجدتني ما ابتعدت عنه تعالى قيد أنملة، وقد كان ذلك في مرحلة الفتوة من العمر، أو ما يطلق عليه المراهقة في العرف المتداول، أما عن الفارق ما بين ما عرفته أولاً بعقلي وتلمسته بأفقي الضيق ، من خبرات قليلة في عالم الحياة، وما بين معرفتي ثم إيماني وحبي لخالقي فجد بعيد جداً؛ ذلك لأن معرفتي ببارئي تمتد كخط متنامي غير منته كل يوم من حياتي يخط نقطة متماسكة منه، وأعجب ما في هذه النقاط المتماسكة أمر أعياني قبل أن أسلم الأمر كله لصاحب الأمر سبحانه، فما سرت في طريق من طرق الحياة إلا وخططت له جيداً لا أطراف النهار بل جله، ثم امتد "التخطيط" طوال الليل بعد أن ينام البشر الأقربون والأبعدون. وهذه الرحلة كانت تقتضي، كل مرة في البدايات، أن أهيأ أوراق فكري واقلام وجداني على السواء، وأشهد الله تعالى وهو أدرى بي، أنني أدركت أن الأمر صار لزاماً في حياتي، ففي كل حالة من حالات اختيار ما هو مسيري في حياتي أفعل كل ما في وسعي لنيل أفضل الاختيارات، وفقاً لمحصلة خبراتي الضئيلة في الحياة، وبعدأن أجهد كل مسام عقلي وكل خلية به، أقرر وأنا الصغير جداً في هذا الكون أن أوان التنفيذ قد جاء. وما من مرة قدمت باب ما أردت ودبرت وخططت وفكرت وأشهدت من حولي على صدق عزمي وقوة عزيمتي وإصراري على الأمر سواء اختيار نوع دراسة عليا أو عمل أو زواج أو سفر وحط للرحال خارج وطني أم عودة إليه، ويجئ من يهمس في أذني بأن الأمر جد يسير لا يحتاج كل ما أفعل، وفي كل مرة يبدو لقلبي قبل عيني طريق صغير غير رئيسي ،ضمن نطاق اختياري، يبدأ ثم ينمو فتستشعر قوته روحي وتعاند تلك الشقية التي ما بين جنبي، نفسي، مطالبة بإكمال ما قد بدأناه من قبل من عزم، فإذا ما طرقت باب التنفيذ الذي دلتني عليه أجد أموري عسيرة بالغة الثقل فاتذكر بيت شعر كان يذكرني به على الدوام ،في مثل هذه المواقف، أحد أعز الاصدقاء بل أفاضل من عرفت أستاذ الفلسفة الإسلامية المشارك بالجامعة الإسلامية بباكستان نبيل فولي: مال الجمال مشيها وئيدا أجندلاً يحملن أم حديداً وتلتاع النفس حينها إذ تجد نوع دراسة لا تريده، وعملاً لا تحبه، ثم زوجة مميزة ولكن درب الزواج بها يبدو غير ممهد أمامها، وكم كانت دروب ممهدة لم تقبل سيرها عليها، وحيال كل هذه الاختبارات لا القرارات، فحسب، في مراحل مختلفة من حياتي كانت تبدو نفسي على حقيقتها بالغة التمني للأمر الذي اختارته، تشعر بالمرارة لفقده، أما روحي فقد اعتادت مع الأيام السير في الدرب البعيد لنفسي بهدوء وتؤده، وللحقيقة فما بينهما كم احترت؟ وعاماً بعد عام، مرة بعد مرة اعتدت التصرف الصواب، ففي البداية كنت ألتاع متجاهلاً نداء روحي بأن سر في الدرب الذي اختاره لك الجليل سبحانه ودع عنك كلمات البشر .. وكنت أقول لها وهل نحن فقط اللذين يفهمان؟ وفي المنتصف من رحلة العمر، سرت أتمهل أحاول التريث، والآن سرت أحاول تسليم الأمر لصاحب الأمر كله. لماذا لا اؤمن بالله تعالى إذن؟ أسأل نفسي هذا الليل آناء الليل وأطراف النهار، ألم أجدها ذليلة لا تساوي في عالم البشر شيئاً بعد رحيل أبي، رحمه الله تعالى ووسع في قبره وأحسن مدخله وجعل الجنة مستقره؟ وكنت حينها عوداً أخضر لم يستو على سوقه ، وقد كان من أظنه سندي في الحياة، فخفت على نفسي من ظلم البشر من بعده وقد كان ملء السمع والبصر منهم، ولم أكن قد أكملت الرابعة عشرة بعد، وفهمت بعد حين بأن هناك من هو أفضل من أبي ويخطط لي حياتي على النحو الأمثل إذ إنه خالقي وخالق أبي. والحقيقة إنني ما سرت في الطريق في الطريق الذي اختاره المولى تعالى لي إلا وصورت لي نفسي محنة على الطريق فما إن أهل الطريق واتضحت ملامحه إلا ووجدت منحة كبرى في انتظاري، وما استويت في بعض الطرق إلا لظلم من بعض طغاة البشر، على اختلاف في أحجامهم، سبب لي ذلك في البدايات من الغيظ الكثير، ثم صرت أدرك بعد عقد أو أكثر أن الأمر لا يخلو من حكمة لدى خالقنا جميعاً وأنه إن ترك الظالم فلذلك أمر لا يعلمه أمثالي، ثم لما رأيت دقيق عزته في الظالمين من بعد أفهمت نفسي ألا شماتة وبعد نحو عقدين أو يزيد صرت أجد برداً حقيقياً في قلبي وسعة في روحي كلما شعرت ببالغ الظلم يحل بأرضي؛ فللقدير حكمة لا يصل مدى روحي إليها، ثم إنه يخيل إلي أني ظلمت، هنا أتذكر ما قد علمتنيه التجربة، فأن بركات السماء توشك أن تنهمر على أرضي. وهل أجل من حكم الله العزيزعلى الطغاة ممن استبدوا؟ ولكن أين القلوب الشفافة والأروح المؤمنة من الفلول لتعي؟ وإن اضطر مثلي لمغادرة بلدي، نور عيني وقرة قلبي ومسك نفسي بعد كلمات ربي وهدي رسوله، صلى الله عليه وسلم، وجدت الآية الكريمة في مسجد المطار تتلى على مسامعي بدقة : "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير" وبقيت الآية الكريمة معي في الغربة لا يمر أسبوع إلا وأسمعها عدة مرات وحين أعود لمصر أجدها تطرق أبواب روحي بشدة حتى وجدت تفسيراً واقعياً لها في بلدي منذ شهور قليلة، وإن تأخر حق لي فإن الآية طالما أشعرتني أن يد العناية الإلهية تربت على قلبي قبل كتفي، برغم معصيتي، ومع الأيام علمت أن من بعض بعض فيض الآيات: إن يد القدرة المطلقة تقول لي ولأمثالي: نحن هنا لماذا تحزن وترهق نفسك افعل ما ينبغي عليك ودع الأمر لنا أو كما أحد الصالحين:"كن كريشة في الهواء يحركها الله كما يشاء" فقط افعل ما عليك، أو كما ورد في قديم الكتب السماوية:حرك يديك يأتيك الرزق، وهل تخلينا عنك من قبل كي نتخلى عنك اليوم؟ ومع الأيام علمت أن البارئ يخلق من خلقه من البشر مصداقاً لقوله في الحديث القدسي:لأرزقن عديمي الحيلة حتى يتعجب أولي النهى، أو كما قال تعالى، وذلك فيما يخص الذين لا يحسنون المكر وفهم مفرداته أو هكذا يفهم مثلي الأمر . وأصدق نفسي القول، قبل غيرها، فما وقفت لدى باب أحد من البشر إلا وردني خائباً وإن منحني القليل من متاع الدنيا إما أن يتأخر أو يضن بكل ما أتمنى، أو يمن علي من طرف خفي بقليل ما وهبني، وما وقفت بباب الكريم تعالى إلا وأعطاني أكثر مما استحق، وما ظلمني أحد من البشر وهرعت إليه فمسحت بدموعي أعتاب أبواب رحمته إلا وأثلج قلبي وهدأ روعي وأفاض على روحي طمأنينة، وأشعرني بأن خصمي يستحق الرأفة لما جنت يداه، ثم غمرني الكريم بمزيد بعطاياه. وهكذا ينمو ما بين أطياف روحي وآفاق فكري السؤال مصححاً: كيف لا أؤمن بالله تعالى؟