القرآن الكريم كتاب الله المقروء ، والطبيعة من حولنا كتاب الله المنظور .. وكلا الكتابين أمرنا الله سبحانه بالتفكر فيه والنظر والتدبر .. لا لنتخذ من معطيات التفكر في الكتاب المنظور دليلا على صحة الكتاب المقروء ؛ بل لأن ذلك سبيل صناعة الحضارة وعمارة الكون .. يقول الله تعالى : " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا " .. ويقول سبحانه :" أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ " ... وغيرها الكثير من الآيات التي توجب النظر والتفكر في النباتات ، والحشرات ، والذرة ، والخلية ، وتراكيب المجتمع العمرانية على اختلافها ، والظواهر التاريخية ، والظواهر الجيولوجية ، والفلكية ، والطبيعية من قبيل : الصوت والضوء والحركة والمغناطيسية والكهربية والحرارة .. الخ .. وكلها أمور لو فطن المسلمون المعاصرون لماهية التفكير وحقيقته ، ومارسوه على النحو الصحيح لكان لهم السبق في بناء معالم الحضارة الحديثة. ولكن ما هي ماهية التفكير الذي يجب أن نربي عليه أبنائنا إذا ما أردنا لهم أن يكونوا شخصيات فاعلة في بناء الحضارة ؟؟ .. والجواب ببساطة : أن العقل البشري يفكر في حالة واحدة لا ثاني لها ، وذلك عندما يكون هناك مشكلة يبحث لها عن حل .. أو ظاهرة يبحث لها عن تفسير .. أو سؤال يبحث له عن جواب .. وغير ذلك فليس من التفكير ولا من الفكر في شيء .. فأن يرفع الفرد منا رأسه للسماء مبديا إعجابه بزرقتها ، أو يمد ناظريه للبحر مبديا دهشته بحركة أمواجه ، أو ... الخ .. مرددا سبحان الله وفقط .. متوهما أنه قد مارس فريضة التفكير .. فذلك أمرا غاية في السطحية أورثنا الضعف والتبعية والتخلف الحالي الذي نحياه !! .. فما الظواهر الطبيعية إلا مثيرات بثها الله سبحانه في الكون لتثتثير حواسنا لجمع المعلومات وطرح التساؤلات وصياغة المشكلات .. ليعمل فيها العقل عمله وصولا للحلول والتفسيرات والقوانين الحاكمة لها .. ولذا يجب أن يواجه المربون حال تربيتهم للأبناء بظواهر الطبيعة ، أو ظواهر المجتمع المختلفة على هيئة تساؤلات او مشكلات .. طالبين منهم البحث عن الجواب ، والتفسيرات والحلول .. القضية إذا تتوقف على المربين ومدى قدرتهم على استخدام المقررات والمناهج الدراسية ليعلموا الطلاب من خلالها كيف يفكرون ، لا أن تصبح المعلومات الواردة في هذه المقررات هدف في حد ذاتها .. يودعونها عقول المتعلمين مطالبين إياهم بردها يوم الإمتحان !! ويرتبط بالقدرة على ممارسة التفكير والإبداع فيه شرط مسبق لا يقل عنه أهمية على طريق صياغة الأبناء بما يؤهلهم لصناعة الحضارة .. ألا وهو الحرية .. ومن ثم ضرورة تربيتهم على معرفة وممارسة حقوق الإنسان داخل الوسط المدرسي ؛ ذلك أن الإبداع عطاء خيال حر .. و لا يولد إلا من رحم الحرية .. لا ينتج إلا من عقل تحرر من الخوف ومن اتباع الظن والهوى .. عقل قادر على أن يشك ويتسائل وينتقد المعارف والوقائع .. عقلا بمقدوره تحويل ما يُطرح كحقائق علمية جاهزة إلى موضوع قابل ( للتكسير المعرفي ) واختراق دائرته وتفكيكها .. شارعا في الإضافة إليها أو الحذف منها وصولا لليقين المعرفي ؛ ولذا فإن تربية المعلمين للمتعلمين على الحرية المنضبطة بثقافة الحقوق والواجبات داخل الوسط المدرسي يُعوّل عليها كثيرا في أن يكون نتاج المعلم التربوي ممثلا في المتعلمين عاملا ذا جودة مرتفعة وكفاءة كبيرة في صناعة الحضارة والتقدم . يبقى أخيرا أن نشير إلى الأخلاق كمطلب ضروري يجب توافره في صُنّاع الحضارة ، حيث لا قيمة لحضارة يشيدها أناس يسعون في الأرض فسادا وبغير نظام العدل ! .. فإذا أرنا أن ننشئ حضارة بمعنى الكلمة فلابد من تكوين أفراد أخيار قبل ذلك .. وإذا كانت السياسة التي تشيد الحضارة – أخلاق اجتماعية ، فالأخلاق – هي سياسة مدرسية .. ففي المدرسة ، وفي المراحل الأولى تحديدا من عمر الإنسان يتلقى التربية على القيم ، والتي غالبا ما يكون سلوكه فيما بعد انعكاسا صادقا لما تربى عليه منها ؛ ولذا فإن المعلمين كمربين يتوجب عليهم تربية المتعلمين على القيم الأخلاقية الإسلامية .. بداية من التقوى والعدل والمساواة ومراعاة الكرامة والحريات الإنسانية وتحمل المسؤولية واتقان العمل .. مرورا بالشورى والأمانة والصدق والرحمة والإيثار والشجاعة والكرم والبر والتعاون .. وصولا إلى العفة والحياء والوفاء والتواضع وحسن الجوار وكف الأذى ... الخ ، مخاطبين عقولهم بجوهر تلك القيم ؛ ليدركوا مضامينها وأبعادها المعرفية ، ثم تحريك وجداناتهم للانفعال بمضمونها ؛ وذلك بهدف أن تحتل هذه القيم درجة متقدمة على سلم الترتيب القيمي لديهم .. عند ذلك نضمن لحد بعيد أن يأتي سلوك الأبناء سلوكا أخلاقيا .. وان تكون الحضارة التي يشيدونها حضارة اخلاقية . التفكير الإبداعي .. التربية على حقوق الإنسان .. القيم الأخلاقية .. مقومات ثورة تربوية نريدها أن تكون في مدارسنا وجامعاتنا .. فهل يستجيب متخذ القرار ؟ وهل تستجيب كليات التربية ؟ [email protected]