مصر هى أم الدنيا وأقدم قطر على وجه الأرض، وهى بلد الأمن والأمان . خلبت لب من وطأت أقدامه أرضها، وانصهر فى بوتقتها، وصاروا يشيدون بدورها .. فهى حاضنة لكل الناس التى كانوا يهرعون إليها وقت الشدائد، وهى التى صدت الغزاة وأقبرتهم على أرضها ، وهى التى ألهمت العلماء والأدباء والشعراء والمؤرخين، فأشادوا بها ، ولم يختلقوا مناقب لها، وإنما قرروا واقعاً. وسوف نستعرض فى هذا الكتاب "فضائل مصر المحروسة لابن الكندى" لنذكر الناس بفضائل هذه البلدة التى خصها الله بفضائل قلما يتصف قطراً آخر بها .. فقد ورد ذكرها بالخير فى القرآن والسنة ووصفها الله بالأمن والأمان. نلتقى على غير العادة مع أحد كتب التراث المجيدة .. مؤلفه واحد من مؤرخى مصر الإسلامية وهو من المؤسسين لهذه المدرسة، ألف هو ووالده المؤرخ الكبير محمد بن يوسف الكندى صاحب كتاب "ولاة مصر"، وكتاب "قضاة مصر"، وغيرها من الآثار ..
وقد بدأت مدرسة التاريخ الإسلامى لمصر منذ فترة مبكرة ، بدأت بابن عبدالحكم صاحب كتاب "فتوح مصر"، مروراً بابن زولاق، والكندى الأب والابن، وابن ميسر، والمقريزى شيخ مؤرخى مصر الإسلامية، وابن حجر، وابن تغرى بردى، والسيوطى، وابن إياس، والسخاوى، وصولاً إلى عبدالرحمن الجبرتى .. وهى مدرسة عريقة ألهبتها الحماسة لأهمية مصر فى كل العصور، وأنها دولة محورية وحاسمة لفترات عصيبة فى التاريخ الإنسانى.
محقق هذا الكتاب الدكتور على محمد عمر الذى تخصص فى تحقيق الكتب المتعلقة بتاريخ مصر ، حقق طبقات ابن سعد، وطبقات المفسرين للسيوطى، وطبقات المفسرين للداودى، وطبقات الحفاظ للسيوطى، وسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى وفضائل مصر لابن زولاق وغيرها ...
وقد تناول المحقق تاريخ قضية نسب الكتاب، بعد أن استعرض أقوال المؤرخين فى هذا الأمر، فمنهم من عزاه إلى والده أبى عمر الكندى، مثل السيوطى فى كتابه "حسن المحاضرة" ، وقد سار على نهج السيوطى أغلب المؤرخين الذين أتوا بعده ، فنسب إسماعيل باشا البغدادى كتاب الفضائل إلى أبى عمر الكندى، كذلك فعل الزركلى وعمر رضا كحالة ..أما المقريزى فهو المؤلف الوحيد الذى ذكر صراحة نسبة الكتاب إلى عمر بن محمد بن يوسف ، يضاف إلى أن المؤلف أشار صراحة فى مقدمة كتاب الفضائل هذا إلى والده من بين علماء مصر الذين جمع من كتبهم ما أمره به كافور الإخشيدى ...
ويعد هذا الكتاب من أمهات الكتب العظيمة التى أرخت لمصر الإسلامية وأبانت فضائلها وخصائصها منذ الفتح وحتى عصر الإخشيديين ، واعتمد عليه معظم المؤلفين الذين جاءوا من بعده مثل ابن سعيد الأندلسى (ت 685ه) فى كتابه "المغرب فى حلى المغرب"، والشهاب النويرى (ت 732ه) فى موسوعته "نهاية الأرب فى فنون العرب"، والقلقشندى (ت821ه) فى موسوعته "صبح الأعشى" ، والمقريزى(ت845ه) فى كتابه "المواعظ والإعتبار" المشهور بالخطط ، كما أخذ منه ابن تغرى بردى (ت874ه) ، والسيوطى(ت911ه) . وهكذا ظلت مدرسة مصرتعتمد على هذا الكتاب فى كل مراحلها حين يزمع مؤرخوها الحديث عن فضائل مصر، وموضوع الكتاب يتجلى فى قول المؤلف فى مقدمته حينما قال:"هذا الكتاب أمر بجمعه وحض على تأليفه الأستاذ أبو المسك كافور (الإخشيدى)، نذكر فيه أخبار مصر وما حضها الله به من الفضل والبركات والخيرات على أكثر البلدان" ..
وقد استهل ابن الكندى عرضه لأخبار مصر وفضائلها بآيات من القرآن الكريم ..جاء فيها ذكر مصر مثل قوله:"وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا، واجعلوا بيوتكم قبلة"، وقوله تعالى عن حكاية فرعون وافتخاره بمصر:"أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى"، قوله على لسان يوسف حينما سمح لأخوته بدخول مصر" أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين" ، وهكذا ساق ابن الكندى عدداً من الآيات الكريمة التى ذكر فيها اسم مصر، ليصل فى النهاية إلى الغاية بمجد وطنه ، لذا نراه يتساءل بعدها:"فهل يعلم أن بلداً من البلدان فى جميع أقطار الأرض أثنى عليه الكتاب بمثل هذا الثناء، أو وصفه بمثل هذا الوصف، أو شهد له بالكرم غير مصر".. وسار ابن الكندى على النهج نفسه فى روايته لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التى ورد فيها ذكر مصر، ونقتبس منها حديث رواه مسلم يوصى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل مصر: "ستفتح عليكم بعدى مصر، فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لكم صهراً وذمة"، وقوله أيضا: "ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحماً"، ويفسر المؤرخ هذا فيقول فأما الرحم، فإن هاجر أم إسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهما السلام – من القبط من قرية نحو الفرما يقال لها :أم العرب(موقعها الآن شرقى بورسعيد تعرف بتل الفرما)، وأما الذمة: فإن النبى صلى الله عليه وسلم تسرى من القبط بمارية أم إبراهيم ابن رسول الله وهى من قرية بالصعيد تدعى حفن بكورة أنصنا ("الشيخ عبادة " بمركز ملوى بالمنيا).
كما أشاد ابن الكندى بمصر وبأهلها فى الجانب المرتبط بالرسل والأنبياء، فكان بها من الأنبياء: إبراهيم الخليل، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، والأسباط أولاد يعقوب، وموسى وهارون، ويوشع بن نون، وعيسى بن مريم، عليهم جميعاً على نبينا أفصل الصلاة والسلام ، كما ذكر عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حينما كتب إلى جماعة من الملوك منهم هرقل الروم فما أجابه أحد منهم، وكتب إلى المقوقس صاحب مصر، فأجابه عن كتابه جواباً جميلاً ، وأهدى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عدداً من الهدايا فقبلها.
ثم ذكر الصحابة، والفقهاء، والعلماء، والأحبار، والزهاد الذين دخلوها واستقروا بها كما ذكر من دخلها من الملوك، والخلفاء، وأهل العلم، وأهل الشعرن والنحو، والخطابة، وكل من برع على أهل زمانه.
كما تحدث عن مدنها وقراها بشىء من الوصف والايجاز كما تحدث أيضاً عن جمالها ومناظرها ورونقها فهو ينقل عن كعب الأحبار قوله: "من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة ، فلينظر إلى مصر إذا أخرفت وإذا أزهرت وإذا اطردت أنهارها ، وتدلت ثمارها ، وفاض خيرها ، وغنت طيرها"، وعن عبدالله بن عمر قوله: "من أراد أن ينظر إلى الفردوس فلينظر إلى أرض مصر حين تخضر زرعها، ويزهر ربيعها، وتكسى بالنوار أشجارها"، ثم تكلم عن النيل وماورد فيه من فضائل حيث روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان والنيل الفرات"، وذكر أقوال الصحابة والخلفاء والحكماء فيه ...
ثم يختم كتابه بفصل (الخواص والعجائب التى بمصر) فيقول :"فأما الخواص التى بها والعجائب والبركات والحكم، فجبلها المقدس، ونيلها المبارك، وبها الطور حيث كلم الله تعالى موسى ، وبها الوادى المقدس ، وبها ألقى موسى عصاه، وبها فلق البحر لموسى وبها ولد موسى وهارون وبها ملك يوسف ...ألخ "
وفى النهاية نقول للجميع أخلصوا لمصر حقا وأحبوها ، كما أخلص وأحب القدماء ..لا تنتصروا لغريب أفكاركم وقيسوها على تربة مصر فإن قبلتها فانشروها ، وإن نفرتها فإبتعدوا بأفكاركم عنها، ودعوا المخلصين لها ... فالنصر والتقدم لا يأتى إلا بالإخلاص والجد والعمل ..لا بالثرثرة والمكوث فى الفضائيات، نسلخ فى جلد هذا الوطن ولا نعبر بالضرورة عن همومه وهموم أفراده...