دمج وعودة وزارات جديدة.. أحمد موسى يكشف ملامح تشكيل الحكومة المرتقب (فيديو)    نادي مستشاري النيابة الإدارية بالمنصورة يهنئ الرئيس السيسي بثورة 30 يونيو المجيدة    نقيب الفلاحين يبشر المزارعين: إنفراجة قريبة في أزمة الأسمدة    مياه الجيزة: إصلاح خط مياه قطر 600 ملي بميدان فيني بالدقي.. وعودة المياه تدريجيا    وزير النقل يبحث مع وفد من كبرى الشركات الألمانية الموقف التنفيذي لعدد من المشروعات الجاري تنفيذها    إيران: الأجواء المثارة من قبل إسرائيل ضد لبنان "حرب نفسية"    عمرو أديب: دعم الاتحاد الأوروبي لمصر سياسي قبل أن يكون اقتصاديا    يورو 2024.. لا فوينتي: مباراة جورجيا ستكون معقدة ولها حسابات خاصة    "إهدرنا للفرص أعاد الزمالك للقاء".. أول تعليق من أيمن الرمادي بعد الهزيمة من الفارس الأبيض    مانشستر يونايتد يراقب دي ليخت لخطفه من بايرن ميونخ    بالصور.. انهيار منزل مكون من 4 طوابق في الدقهلية وقرار عاجل من المحافظ    برقم الجلوس.. نتيجة الدبلومات الفنية 2024 عبر الموقع الرسمي (الرابط المباشر للاستعلام)    مصطفى كامل يدعم أعضاء نقابة المهن الموسيقية مراعاةً للظروف الاقتصادية    بعد اعتذاره لإدارة موازين.. محمد رمضان يتراجع: "في أوامر بإقامة الحفل وعدم إلغائه"    هيئة البث الإسرائيلية: أكثر من 40 مواجهة بين الجيش وفصائل فلسطينية فى الشجاعية    «قصور الثقافة» تحتفل بذكرى «30 يونيو» غدًا على «مسرح 23 يوليو » بالمحلة    كاظم الساهر يزور مدينة الفنون والثقافة فى العاصمة الإدارية قبل مغادرته مصر    أستاذ تمويل يوضح مكاسب مصر من ترفيع العلاقات مع أوروبا    بالصور.. وكيل الأزهر يتفقد لجان امتحانات الشهادة الثانوية في مادة الأحياء    وفد شؤون الأسرى المفاوض التابع للحوثيين يعلن وصوله إلى مسقط    الأوقاف تعلن افتتاح باب التقدم بمراكز إعداد محفظي ومحفظات القرآن الكريم - (التفاصيل)    مدبولي يُثمن توقيع أول عقد مُلزم لشراء الأمونيا الخضراء من مصر    مبابي يختبر قناعا جديدا قبل مواجهة بلجيكا في أمم أوروبا    رئيس الوزراء يلتقي رئيسة منطقة شمال إفريقيا والمشرق العربي بشركة إيني الإيطالية    بعد 8 أعوام.. الجامعة العربية تلغي تصنيف حزب الله "منظمة إرهابية"    احتفالية كبرى بذكرى ثورة 30 يونية بإدارة شباب دكرنس    حبس 20 متهماً بتهمة استعراض القوة وقتل شخص في الإسكندرية    «نويت أعانده».. لطيفة تطرح مفاجأة من كلمات عبد الوهاب محمد وألحان كاظم الساهر    وزير الصحة يبحث مع ممثلي شركة «إيستي» السويدية تعزيز التعاون في القطاع الصحي    مانشستر سيتي يخطف موهبة تشيلسي من كبار الدوري الإنجليزي    الداخلية تكشف ملابسات واقعة طفل الغربية.. والمتهمة: "خدته بالغلط"    تطوير عربات القطار الإسباني داخل ورش كوم أبو راضي (فيديو)    «مياه الشرب بالجيزة»: كسر مفاجئ بخط مياه بميدان فيني بالدقي    عمرو دياب يطرح ريمكس مقسوم لأغنية "الطعامة"    ليفربول يحاول حسم صفقة معقدة من نيوكاسل يونايتد    استشارية أمراض جلدية توضح ل«السفيرة عزيزة» أسباب اختلاف درجات ضربة الشمس    المجاعة تضرب صفوف الأطفال في شمال قطاع غزة.. ورصد حالات تسمم    إحالة أوراق المتهم بقتل منجد المعادي للمفتي    ننشر أسماء الفائزين في انتخابات اتحاد الغرف السياحية    القاهرة الإخبارية: لهذه الأسباب.. الفرنسيون ينتخبون نواب برلمانهم بانتخابات تشريعية مفاجئة    جامعة سوهاج: تكليف 125 أخصائي تمريض للعمل بمستشفيات الجامعة    وفد من وزارة الصحة يتفقد منشآت طبية بشمال سيناء    بعد إحالته للمفتي.. تأجيل محاكمة متهم بقتل منجد المعادي لشهر يوليو    برقية تهنئة من نادي النيابة الإدارية للرئيس السيسي بمناسبة ذكري 30 يونيو    الأهلى تعبان وكسبان! ..كولر يهاجم نظام الدورى.. وكهربا يعلن العصيان    ضحية إمام عاشور يطالب أحمد حسن بمليون جنيه.. و14 سبتمبر نظر الجنحة    مصر تدعو دول البريكس لإنشاء منطقة لوجستية لتخزين وتوزيع الحبوب    الصحة: اختيار «ڤاكسيرا» لتدريب العاملين ب «تنمية الاتحاد الأفريقي» على مبادئ تقييم جاهزية المرافق الصيدلانية    ماهو الفرق بين مصطلح ربانيون وربيون؟.. رمضان عبد الرازق يُجيب    مجلس جامعة الأزهر يهنئ رئيس الجمهورية بالذكرى ال 11 لثورة 30 يونيو    بدءا من اليوم.. فتح باب التقدم عبر منصة «ادرس في مصر» للطلاب الوافدين    الصحة: الكشف الطبى ل2 مليون شاب وفتاة ضمن مبادرة فحص المقبلين على الزواج    كيف فسّر الشعراوي آيات وصف الجنة في القرآن؟.. بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت    شرح حديث إنما الأعمال بالنيات.. من أصول الشريعة وقاعدة مهمة في الإسلام    الإفتاء: يجب احترم خصوصية الناس وغض البصر وعدم التنمر في المصايف    حكم استئذان المرأة زوجها في قضاء ما أفطرته من رمضان؟.. «الإفتاء» تٌوضح    «غير شرعي».. هكذا علق أحمد مجاهد على مطلب الزمالك    البنك الأهلي: تجديد الثقة في طارق مصطفى كان قرارا صحيحا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحاديث الرسول عن جيش مصر
نشر في النهار يوم 21 - 02 - 2015

ورد في أحد الأسئلة لدار الافتاء المصرية والذي يقول : برجاء التكرم بإفادتنا رسميًّا وكتابيًّا عن مدى صحة هذه الأحاديث الشريفة:
1. عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: حدثني عمر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر بعدي فاتخذوا فيها جندًا
كثيفًا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض»فقال له أبو بكر: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال:«لأنهم في رباط إلى يوم القيامة».
2. «إذا فتح الله عليكم مصر استوصوا بأهلها خيرًا فإنه فيها خير جند الله».
3. «إن جند مصر من خير أجناد الأرض لأنهم وأهلهم في رباط إلى يوم القيامة».
المطلوب: حكم صحة الأحاديث معتمدة من حضرتكم:
وفي الاسطر القادمة يجيب الأستاذ الدكتور/ شوقي علام مفتي الديار المصرية :
مدار هذه الأحاديث على أن جند مصر هم خير أجناد الأرض؛ لأنهم في رباط إلى يوم القيامة، وعلى الوصية النبوية بأهلها؛ لأن لهم ذمة ورحمًا وصهرًا، وكلُّها معانٍ صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تتابع على ذكرها وإثباتها أئمة المسلمين ومحدثوهم ومؤرخوهم عبر القرون سلفًا وخلفًا، ولا يقدح في صحتها وثبوتها ضعفُ بعض أسانيدها؛ فإن في أحاديثها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر الذي احتج به العلماء، وقد اتفق المؤرخون على إيراد هذه الأحاديث والاحتجاج بها في فضائل مصر من غير نكير.
ويجمع هذه المعاني: ما ذكره سيدُنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وما أورده من أحاديث مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خُطبته الشهيرة التي خطب بها أهلَ مصر المحروسة على أعواد منبر مسجده العتيق بفسطاط مصر القديمة، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء، بعد أيام قليلة من(حميم النصارى) وهو "خميس العهد" عند المسيحيين؛ حيث كان يحض الناس في أواخر شهر مارس أو أوائل شهر إبريل على الخروج للربيع، وكان يخطب بذلك في كل سنة.
وقد سمعها منه المصريون وحفظوها، وتداولوها جيلًا بعد جيلٍ، ودونوها في كتبهم ومصنفاتهم، وصدَّروا بها فضائل بلدهم، وذكروا رواتَها في تواريخِ المصريين ورجالِهم كابرًا عن كابرٍ، وأطبقوا على قبولها والاحتجاج بها في فضائل أهل مصر وجندها عبر القرون؛ لا ينكر ذلك منهم مُنكِرٌ، ولا يتسلط على القدح فيها أحدٌ يُنسَبُ إلى علمٍ بحديثٍ أو فقهٍ؛ بل عدُّوها من مآثر خُطَب سيدنا عمرو رضي الله عنه ونفيس حديثه، ولم يطعن فيها طاعن في قديم الدهر أو حديثه.
وقد أسند عمرو بن العاص رضي الله عنه في هذه الخطبة الحديثَ المرفوع في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر خيرًا،عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً».
وأسند أيضًا الحديثَ المرفوع في فضل جند مصر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا فَتَحَ عَلَيْكُمْ مِصْرَ؛ فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُنْدًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الْجُنْدُ خَيْرُ أَجْنَادِ الْأَرْضِ»، فقال أبو بكر الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ وأبناءَهم فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
- وقد روى هذه الخطبةَ قاضي مصر الإمامُ الحافظ عبد الله بن لهيعة،ورواها عنه الإمامان الحافظان: أبو نُعيم إسحاق بن الفرات التُّجِيبيُّ، وأبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بُكَير المخزومي.فأخرجها مستوفاةً من طريق إسحاقَ بن الفرات عن ابن لهيعة:
الإمامُ الحافظ أبوالقاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم [ت257ه] في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 166-167، ط. مكتبة الثقافة الدينية) فقال: حدثنا سعيد بن ميسرة، عن إسحاق بن الفرات، عن ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميرى، عن بحير بن ذاخرالمعافري، قال:
"رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرًا، وذلك آخر الشتاء، أظنّه بعد حميم النّصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع إذْ أقبل رجال بأيديهم السياط، يزجرون الناس،
فذعرت، فقلت: يا أبت، من هؤلاء؟ قال: يا بنيّ هؤلاء الشُّرَطُ. فأقام المؤذّنون الصلاة،فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه على المنبر، فرأيت رجلًا ربعة قصد القامة وافر الهامة، أدعج أبلج، عليه ثياب مَوْشِيَّةٌ كأنّ به العِقْيَان تأتلق عليه حلّة وعمامة وجبّة، فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا وصلّى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظ الناس، وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحضّ على الزكاة، وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفضول، وكثرة العيال.
وقال فى ذلك: يا معشر الناس، إيّاي وخلالًا أربعًا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة،وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلّة بعد العزّة؛ إيّايَ وكثرةَ العيال، وإخفاضَ الحال، وتضييعَ المال، والقيلَ بعد القال، في غير درك ولا نوال، ثم إنه لا بدّ من فراغ يؤول إليه المرء فى توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقلّ، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه فيحور من الخير عاطلًا، وعن حلال الله وحرامه غافلًا.
يا معشر الناس، إنه قد تدلّت الجوزاء، وذَكَت الشِّعْرَى، وأقلعت السّماء،وارتفع الوباء، وقلّ الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرّجت السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيّته حسن النظر. فحيَّ لكم على بركة الله إلى ريفكم؛ فنالوا من خيره ولبنه، وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها، فإنّها جُنّتكم من عدوّكم، وبها مغانمكم وأثقالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرًا، وإيّاي والمشمومات والمعسولات، فإنهنّ يفسدن الدّين ويقصّرن الهمم.
حدثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً».
فعفّوا أيديكم وفروجكم، وغضّوا أبصاركم، ولا أعلمنّ ما أتى رجل قد أسمن جسمه، وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علّة حططتُه من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حوالكم وتشوّق قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
وحدثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِصْرَ، فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُنْدًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الْجُنْدُ خَيْرُ أَجْنَادِ الْأَرْضِ» فقال له أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».
فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتّعوا في ريفكم ما طاب لكم؛ فإذا يبس العود، وسخن العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوّح البقل، وانقطع الورد من الشجر، فحيَّ على فسطاطكم، على بركة الله، ولا يقدَمَنَّ أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.
قال: فحفظت ذلك عنه، فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لمّا حكيتُ له خطبته: إنه يا بنيَّ يحدو الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط، كما حداهم على الريف والدّعة".
وأخرجها مستوفاةً أيضًا: حافظُ عصره الإمامُ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني [ت385ه] في "المؤتلف والمختلف" (2/1003-1004، ط. دار الغرب الإسلامي) فقال:
حدَّثَنا أبو الحسن علي بن أحمد بن الأزرق المعدل, قال: حدثَنا محمد بن موسى بن عيسى الحضْرميّ, قال: حدثنا أبو محمد وفاء بن سُهَيْل بن عبد الرحمن الكندي سنة ثلاث وستين ومائتين, قال: حدثنا إِسحاق بن الفرات, قال: حدثنا ابن لَهِيعَة, عن الأَسْود بن مالك الحميري, عن بَحِير بن ذَاخِرٍ المَعَافِريّ، قال: ركبتُ أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة.. فساقها بتمامها، غير أنه قال في حديثها: «لِأَنَّهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».
ومن طريق الإمام الدارقطني أخرجها الإمامان الحافظان: أبو عبد الله النميري [ت544ه] في "الإعلام بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام" (ص: 83، ط. دار الكتب العلمية) حيث ساق أولها، وأبو القاسم بن عساكر [ت571ه] في "تاريخ دمشق" (46/162، ط. دار الفكر) حيث ساقها بتمامها.
وأخرجها مختصرةً: الإمام الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي الحنفي [ت321ه] في "شرح مشكل الآثار" (8/228، ط. مؤسسة الرسالة)؛ فقال:
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: حدثنا إسحاق بن الفرات قال: حدثنا ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، عن بحير بن ذاخر المعافري، أنه سمع عمرو بن العاص رضي الله عنه في خطبته يوم الجمعة يقول: "يا معشر الناس، إياي وخلالا أربعًا؛ فإنهن يدعون إلى النصب بعد الراحة, وإلى الضيق بعد السعة, وإلى المذلة بعد العزة: إياك وكثرة العيال، وإخفاض الحال، والتضييع للمال، والقيل بعد القال، في غير درك ولا نوال".
وأخرجها مستوفاةً من طريق يحيى بن بُكَير عن ابن لهيعة: الإمامُ المؤرخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي الفقيه [ت387ه] في "فضائل مصر وأخبارها" (ص: 83، ط. مكتبة الخانجي) فقال: حدثنا علي بن أحمد بن سلامة، قال: حدثني عبد الملك بن يحيى بن بكير قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، عن بحير بن ذاخر المعافري.. فساقها بتمامها، غير أنه قال فيها: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».. وقال في آخرها: "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم"، قال: فحفظتُ ذلك عنه، قال: فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لمّا حكَيْتُ له خطبته: يا بني! إنه يحدو الناس على الرباط كلما انصرفوا، كما حداهم على الريف والدعة. وكان يخطب بها في كل سنة.
وأخرجها الإمام الحافظ المؤرخ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي [ت347ه] في "تاريخ مصر"؛ حيث عزا إليه العلامة المقريزي في " إمتاع الأسماع" (14/185، ط. دار الكتب العلمية) تخريج الحديث المرفوع في فضل جندها، وعزا إليه الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 610، ط. دار الكتاب العربي) تخريج الحديث المرفوع في الوصية النبوية بأهلها.
وأخرجها مختصرةً: الإمام الحافظُ أبو القاسم بن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/161)؛ فقال: أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي، قال: أخبرنا أبو الحسين بن النقور، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن نصر بن طالب، قال: حدثنا أبو الوليد عبد الملك بن يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي المصري، قال: حدثنا أبي، عن ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك، عن بحير بن ذاخر، قال: رحت مع أبي إلى الجمعة، فأقبل قوم معهم السياط ومعهم رجل قصير القامة عظيم الهامة عليه ثيابُ وَشْيٍ تأْتَلِق، وإذا هو عمرو بن العاص رضي الله عنه، فخطب؛ فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظ موعظة بليغة موجزة، ثم قال: "أيها الناس! إيايَ وقيل وقال، في غير درك ولا نوال"، وذكر عبد الملك خطبة طويلةً، وذكر فيها قال: "وحدثني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ»، قال: فقال لي أبي: يا بُنَيَّ هذا الأمير عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: فأعدتُ الخطبةَ على أبي فعجب مِن حفظي لها، أو فأُعجِبَ بحفظي.
ومدار إسناد هذه الخطبة على الإمام الكبير؛ قاضي مصر وعالمها، ومحدثها وفقيهها، العلّامة أبي عبد الرحمن عبد الله بن لَهِيعة بن عقبة الحضرمي [ت174ه]، وكان من أوعية العلم وبحوره، وهو مقدَّمُ أهل مصر في الحديث والفقه والفتوى مع الإمام الليث بن سعد [ت175ه] رحمهما الله تعالى، وكانا في الحديث كفرسَيْ رِهانٍ، بل إن ابن لهيعة فاق الليث في كثرة من أدركهم من التابعين؛ فقد كان طلّابًا للحديث جمّاعةً له، وهو صاحبُ حديث المصريين وأعلمُ الناس به، وقد وثَّقه أهل مصر وهم أدرى الناس به، وكان كبار المحدِّثين يتمنَّوْنَ الأخذَ عنه، وروَى عنه جماعةٌ من كبار الأئمة؛ كالإمام الأوزاعي، وسفيان الثوري، وأمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج، وإمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وعمرو بن الحارث، وراوي "الموطأ" يحيى بن يحيى النيسابوري وغيرهم، ومنهم من لم يكن يروي إلا عن ثقة؛ كشعبة ومالك رحمهما الله تعالى، وروى عنه إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل بواسطةٍ، وروى له الشيخان البخاري ومسلم في "صحيحيهما" مقرونًا بغيره، ووثَّقه كثير من المحدِّثين، وضعّفه بعضهم.
والذي عليه التحقيق: أن رواياته مقبولة وأن حديثه حسنٌ أو صحيحٌ، وأن الضعف في بعض رواياته إنما أتى مِن جهة مَن روى عنه لا مِن قِبَله هو، ولو ادُّعِيَ أن بعض المحدثين أطلق القول بتضعيفه فهذا معارَضٌ بتوثيق كبار الأئمة له وروايتهم عنه:
فكان ابن لهيعة مشتغلًا بحديث المصريين وكل من ورد على مصر؛ حتى كان يقول: "كانت لي خريطة أضع فيها القراطيس والدواة والحبر، وأدور على القبائل والمساجد؛ أسأل رجلًا رجلًا: ممن سمعتَ؟ ومَن لَقِيتَ؟" اه أسنده المنتجالي في "تاريخه" عن قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، ونقله الحافظ مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال" (8/148، ط. الفاروق الحديثة).
وقال رَوْحُ بن صلاح: "لقي ابن لهيعة اثنين وسبعين تابعيًّا، ولقي الليث بن سعد اثني عشر تابعيًّا" خرّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/141).
وقيل لأحمد بن صالح: أيما أحب إليك: حديث ابن لهيعة الذي رواه الثقات، أو حديث يحيى بن أيوب؟ فقال: كان يحيى حافظًا وفي بعض أحاديثه شيء، وحديث ابن لهيعة أصح. فقيل له: فحديث الليث وابن لهيعة؟ فقال: "ابن لهيعة رَاوِيةُ المصريين، وأي شيء عند الليث من حديث مصر؟ كان ابن لهيعة من الثقات، إذا لقن شيئا يحدثه" اه نقلا عن "إكمال تهذيب الكمال" (8/144).
وعن قتيبة بن سعيد قال: حضرتُ موتَ ابنِ لهيعة فسمعت الليثَ يقول: "ما خلَّف مثلَه"، خرَّجه ابن حبان في "المجروحين" (2/12، ط. دار الوعي).
وعن إمام أهل العلل والجرح والتعديل الإمام الحافظ علي بن المديني أنه قال: "رجلان هما صاحبا حديث أهل بلدهما: إسماعيل بن عياش، وعبد الله بن لهيعة"، خرّجه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (7/186، ط. دار الغرب الإسلامي).
وروى الإمام النسائيُّ، عن الإمام أبي داود، عن الإمام أحمد بن حنبل قال: "مَن كان بمصر يشبه ابنَ لهيعة في ضبط الحديث وكثرته وإتقانه! ما كان محدثُ مصرَ إلا ابنَ لَهِيعة". خرَّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/145)، وروى نحوَه أبو عُبيد الآجريُّ في "سؤالاته" عن الإمام أبو داود (2/175، ط. مؤسسة الريان)، وزاد: "وحدَّث عنه أحمد بحديث كثير" اه، وقد روى عنه الإمام أحمد في "المسند"أكثر من سبعمائة حديث.
وخرَّج ابن حبان في "المجروحين" (2/12) عن إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر قال: "أنا حملت رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس، فجعل مالك يسألني عن ابن لهيعة وأُخبِرُه بحاله، فجعل يقول: فابن لهيعة ليس يذكر الحج؟ فيسبق إلى قلبي أنه يريد مشافهته والسماع منه" اه.
وقال الحافظُ البيهقي -كما في "النفح الشذي" للحافظ العراقي (2/853، ط. دار العاصمة)-: [كان مالكٌ يُحَسِّنُ القولَ في ابن لهيعة] اه. وكذا قال الإمامُ السهيلي في " الروض الأنف" (2/286، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقد روى الإمام مالك عن ابن لهيعة ووثقه؛ فإنه روى في "الموطأ" حديثين عن (الثقة)، وصرح باسمه فيهما خارج "الموطأ":فأما الحديث الأول: فأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" عن الثقة عنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ».
قال الحافظ ابن عدي في "الكامل" بعد أن أخرجه من طريق أبي مصعب الزهري عن مالك (5/252): [هكذا ذكره أبو مصعب عن مالك عن الثقة عن عَمْرو بن شُعَيب، وبعض أصحاب الموطأ يذكرون عن مالك قال: بلغني عن عَمْرو بن شُعَيب، ويقال: إن مالكًا سمع هذا الحديث من ابن لَهِيعَة عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيب، ولم يُسمِّه لضعفه، والحديثُ عن ابن لَهِيعَة عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيب مشهورٌ] اه.
وقال الحافظ ابن عبد البر في "الاستذكار" (6/263، ط. دار الكتب العلمية): [هكذا قال يحيى في هذا الحديث: عن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب، وقال ذلك جماعة من رواة "الموطأ" معه. وأما القعنبي والتنيسي وابن بكير وغيرهم فقالوا فيه: عن مالك أنه بلغه أن عمرو بن شعيب، والمعنى فيه عندي سواء؛ لأنه كان لا يروي إلا عن ثقة.
وقد تكلم الناس في الثقة عند مالك في هذا الموضع، وأشبه ما قيل فيه: أنه ابن لهيعة والله أعلم؛ لأن هذا الحديث أكثر ما يعرف عند ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب] اه.
وقال البيهقي في "السنن الكبرى" (5/559، ط. دار الكتب العلمية): [ويقال: إن مالكًا سمع هذا الحديث من ابن لهيعة, عن عمرو بن شعيب. والحديث عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مشهور] اه.
وقد صرَّح الإمام مالك في هذا الحديث بالرواية عن ابن لهيعة؛ وذلك من طريقين عنه :
- من طريق عبد الله بن وهب، عن مالك؛ فيما أخرجه الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (24/177، ط. وزارة الأوقاف المغربية).
- ومن طريق محمد بن معاوية النيسابوري؛ فيما أخرجه الحافظ أبو أحمد الحاكم [ت378ه] في "عوالي مالك" (1/189، ط. دار الغرب الإسلامي)، والإمام أبو موسى المديني [ت581ه] في "اللطائف من علوم المعارف" (ص: 282، ط. مخطوط).
وأما الحديث الثاني: فأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" أيضًا: عن الثقة عنده، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عبد الرحمن بن الحُبَاب الأنصاري، عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُشرَب التمرُ والزبيبُ جميعًا، والزهوُ والرُّطَبُ جميعًا.
قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (24/205): [هكذا روى هذا الحديثَ عامةُ رُواةِ الموطأ كما رواه يحيى، وممن رواه هكذا: ابنُ عبد الحكم، والقعنبيُّ، وعبد الله بن يوسف، وابن بكير، وأبو المصعب، وجماعتهم.
ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن ابن لهيعة عن بكير بن الأشج.. ثم ساقه من طريقه] اه.وكذا أسنده الحافظ أبو القاسم المهرواني [ت468ه] -فيما خرجه الحافظ الخطيب البغدادي في "المهروانيات" (2/553-554، ط. الجامعة الإسلامية)- من طريق الوليد بن مسلم عن الإمام مالك مصرحًا فيه بالرواية عن ابن لهيعة.
وتوثيق ابن لهيعة هو الذي اعتمده المالكية عن الإمام مالك رضي الله عنه؛ قال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/195، ط. دار الفكر): [ابن حارث عن ابن وهب: رجع مالك عن إنكاره لوجوبه لما أخبرته بحديث ابن لهيعة «كان صلى الله عليه وآله وسلم يخللهما في وضوئه» انتهى -يعني: الأصابع-.. وفيما ذكره ابن وهب دليل على الاحتجاج بحديث ابن لهيعة] اه.
بل هذا هو الذي اعتمده أرباب المذاهب الفقهية المتبوعة؛ حتى قال الحافظ أبو محمد بن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (4/220، ط. دار الآفاق الجديدة): [ولا أحصي كم وجدتُ للحنفيين والمالكيين والشافعيين تصحيحَ روايةِ ابن لهيعة] اه.
وقال الحافظ ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (5/251، ط. الكتب العلمية)؛ مؤكِّدًا سماع الإمام مالك، وغيره من الأئمة؛ كشعبة، والثوري، والليث، من ابن لهيعة: [حديثه أحاديث حسان، وما قد ضعفه السلف هو حسن الحديث يكتب حديثه، وقد حدث عنه الثقات: الثوري، وشعبة، ومالك، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد] اه.
ومن المقرر أن الإمام مالكًا لم يكن يروي إلا عن ثقة، وكذا شعبة؛ قال الإمام علي بن المديني: قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: "ما كان أشدَّ انتقادَ مالك للرجال وأعلمَه بشأنهم"، خرَّجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/23، ط. دائرة المعارف العثمانية)، وخرّجه أبو نعيم في "الحلية" (6/322، ط. دار الفكر) عن علي بن المديني قال: حدثنا سفيان قال: "كان مالك ينتقي الرجال ولا يحدث عن كل أحد"، قال علي: "ومالكٌ أمانٌ فيمن حدَّث عنه من الرجال؛ كان مالكٌ يقول: لا يُؤخَذ العلم إلا عن من يَعرِف ما يقول"، وقال الإمام أحمد بن حنبل: "كان شعبةُ أمةً وحدَه في هذا الشأن"؛ يعني في الرجال، وبصره بالحديث، وتَثَبُّتِه، وتَنْقِيَتِه للرجال، رواه عنه ابنه عبد الله في "العلل" (2/539، ط. دار الخاني)، وقال الإمام الزركشي في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (3/370-371، ط. أضواء السلف): [الذي عادته لا يروي إلا عن ثقة ثلاثة:
يحيى بن سعيد، وشعبة، ومالك. قاله ابن عبد البر وغيره، وقال النسائي: ليس أحدٌ بعدَ التابعين آمَنَ على الحديث مِن هؤلاء الثلاثة، ولا أقل رواية عن الضعفاء منهم] اه.
وأخرج الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/143، ط. دار الفكر) عن الإمام سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث أنه قال: [عند ابن لهيعة الأصول، وعندنا الفروع] اه، وقال: [حججتُ حِجَجًا؛ لِأَلْقى ابنَ لهيعة] اه.
وأخرج ابن عساكر أيضًا في "تاريخ دمشق" (32/143) عن الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: [ودِدت أني سمعتُ من ابن لهيعة خمسمائة حديث، وأني غرمتُ مؤدًّى] اه؛ أيْ: قدرَ دِية.
والإمام ابن لهيعة قد وثَّقه المصريون وحمِدوا روايته، ودفعوا دعوى اختلاطه، وصرَّحوا بأن الضعف إنما هو ممن روى عنه لا منه؛ كابن وهب، ويحيى بن حسان،
والنضر بن عبد الجبار، وعثمان بن صالح، وسعيد بن أبي مريم، وأحمد بن صالح، وهم من كبار محدِّثي مصر وثقاتهم. وهؤلاء هم أهل بلده، وقد تقرر عند المحدثين والمؤرخين أن أهل بلد الراوي أعلمُ الناس به، قال حماد بن زيد: "بلَدِيُّ الرجل أعرف بالرجل"، أخرجه الخطيب في "الكفاية" (1/275، ط. دار ابن الجوزي):
فأخرج ابن عدي في "الكامل" (5/239) عن أبي الطاهر أحمد بن السَّرح قال: سَمعتُ ابن وهب (وهو الإمام عبد الله بن وهب [ت197ه] تلميذ الإمام مالك) يقول، وسأله رجل عن حديث فحدثه به، فقال له الرجل: من حدثك بهذا يا أبا محمد؟ قال: "حدثني به والله الصادق البار عبد الله بن لهيعة"، زاد المزي في "تهذيب الكمال" (15/495، ط. مؤسسة الرسالة): قال أبو الطاهر: "وما سمعتُه يحلف بمثل هذا قط" اه.
وقال الإمام يحيى بن حسّان [ت208ه]: "ما رأيت أحفظ من ابن لهيعة بعد هُشَيْم"، فقال له ابنُه: إن الناس يقولون: احترق كتبُ ابن لهيعة، فقال: "ما غاب له كتابٌ"، خرّجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/148).
وقال أبو الأسود النضر بن عبد الجبار [ت219ه]: "كنا نرى أنه لم يَفُتْهُ من حديث مصرَ كبيرُ شيء"، أخرجه ابن عدي في "الكامل" (5/237).
وقال ابن معين في "تاريخه- رواية ابن محرز" (1/101، ط. مجمع اللغة العربية): [قال أبو الأسود النضر بن عبد الجبار المصري وكان ثقة: ما اختلط ابن لهيعة قط حتى مات] اه.
وهذا عثمان بن صالح السهمي [ت219ه] يسأله ابنه يحيى: متى احترقت دار ابن لهيعة؟ فقال: "في سنة سبعين ومائة"، قلت: واحترقت كتبه كما تزعم العامة؟ فقال: " معاذ الله، ما كتبتُ كتابَ عمارة بن غزية إلا مِن أصل كتاب ابن لهيعة بعد احتراق داره، غير أن بعض ما كان يقرأ منه احترق وبقيت أصول كتبه بحالها"، أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/293، ط. دار المكتبة العلمية).
وقال سعيد بن أبي مريم الجُمَحي [ت224ه]: "لم تحترق كتب ابن لهيعة، ولا كتاب، إنما أرادوا أن يرققوا عليه أمير مصر، فأرسل إليه أمير مصر بخمس مئة دينار"، خرّجه الآجري في "سؤالاته للإمام أبي داود" (2/175).
وقال الحافظ أبو جعفر أحمد بن صالح المصري [ت248ه]: "كان ابن لهيعة طَلَّابًا للعلم صحيحَ الكتاب، وكان أملى عليهم حديثه مِن كتابه قديمًا، فكتب عنه قوم يعقلون الحديث وآخرون لا يضبطون، وقوم حضروا فلم يكتبوا وكتبوا بعد سماعهم، فوقع علمه على هذا إلى الناس، ثم لم تخرج كتبه وكان يقرأ من كتب الناس، فوقع في حديثه إلى الناس على هذا، فمن كتب بآخره من كتاب صحيح قرأ عليه على الصحة، ومَن كَتَبَ مِن كتابِ مَن كان لا يضبط ولا يصحح كتابه وقع عنده على فساد الأصل". خرّجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/184، ط. مؤسسة الرسالة).
ونقل الحافظ أبو حفص عمر بن شاهين [ت385ه] في "المختلف فيهم" (ص: 47، ط. مكتبة الرشد): عن أحمد بن صالح أنه سئل عن ابن لهيعة، فقال: ثقة، قيل له: فيما روى الثقات عن ابن لهيعة، ووقع فيها تخليط، ترى أن نطرح ذلك التخليط؟ قال: ثقة، ورفع بابن لهيعة.
ثم قال الحافظ ابن شاهين: "والقولُ في ابن لهيعة عندي قولُ أحمد بن صالح؛ لأنه من بلده ومن أعرف الناس به وبأشكاله من المصريين، وقد حدَّث شعبة بن الحجاج عن ابن لهيعة".
وفي تاريخ يحيى بن معين (ص: 97، ط. دار المأمون) أنه سُئِل عن ابن لهيعة؛ فقيل له: فهذا الذي يحكي الناسُ أنه احترقت كتبه؟ قال: "ليس لهذا أصلٌ؛ سألت عنها بمصر".
وأخرج ابن عساكر (32/147) عن أبي أمية، عن أبيه، قال: قال أبو زكريا: "أنكر أهل مصر احتراق كتب ابن لهيعة، والسماع منه واحد القديم والحديث" زاد الدورقي: " إلى آخره" اه.
وقال الإمام ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/516، ط. دار صادر): [وأما أهل مصر فيذكرون أنه لم يختلط، ولم يزل أول أمره وآخره واحدًا] اه.
وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/144) عن خالد بن خِداش قال: قال لي ابن وهب، ورآني لا أكتب حديث ابن لهيعة: "إني لست كغيري في ابن لهيعة فاكتبها" اه.
ومما يدل على صحة رواية ابن لهيعة وأن الضعف إنما هو من جهة الرواة عنه: ما أخرجه ابن عساكر (32/147) عن إبراهيم بن الجنيد قال: قال لي يحيى بن معين: "قال لي أهل مصر: ما احترق لابن لهيعة كتاب قط، وما زال ابن وهب يكتب عنه حتى مات" اه.
وهذا يدل على استواء أمره طيلة حياته وأن المعوَّل في قبول روايته على صحة الرواية عنه؛ فإنه لا نزاع بين المحدِّثين في قبول رواية عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة، وابن وهب لم يزل يكتب عن ابن لهيعة حتى مات، ولم يَرِدْ أنه ترك الرواية عنه في وقت من الأوقات، وهذا ما قرره الحافظ ابن عدي في "الكامل" (5/253)؛ حيث قال فيه: [حديثه حسن؛ كأنه يسْتَبان عمَّن روى عنه، وهو ممن يُكتب حديثُه] اه.والتحقيق الذي عليه جماهير المحدِّثين ومحققوهم قديمًا وحديثًا: أن حديثه صحيح أو حسن إذا لم يكن الراوي عنه ضعيفًا.
ولقد صحح جماعات من كبار المحدِّثين قديمًا وحديثًا أحاديث ابن لهيعة، وحسَّنوها؛ منهم:الإمام مالك رضي الله عنه، وتلميذه عبد الله بن وهب، وبَلَدِيُّوه المصريون، والإمام أحمد رضي الله عنه، والإمام الترمذي في "سننه"، والحافظ الدارقطني في "العلل"، و"السنن"، والحافظ أبو سعد الخركوشي في "شرف المصطفى"، وحسَّن له الحافظ الذهبي في "السير" من رواية غير العبادلة عنه، واحتج بحديثه في "التنقيح"، وقوّى له الحافظ ابنكثير في "البداية والنهاية" أحاديث من غير طريق العبادلة عنه، وحسَّن حديثَه الحافظُ الهيثمي في "مجمع الزوائد" ونقل الاحتجاجَ به وتحسين حديثه عن جماعة من العلماء، والحافظ العيني في "عمدة القاري"، والحافظ السيوطي في "حسن المحاضرة"، والعلامة ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج"، وغيرهم كثير.
قال إمام أهل الحديث في عصره الحافظ أبو الحجاج المزي [ت742ه]: [ابن لهيعة من الأئمة الحفاظ.. وإنما تكلم فيه من تكلم بسبب الرواة عنه؛ فمنهم من هو عدلٌ؛ كابن المبارك ونحوه، ومنهم من هو غير عدل، فإن كان الذي روى عنه عدل فهو جيدٌ، وإلا كان غير عدل فالبلاء ممن أخذه عنه] اه نقلا عن "النكت على مقدمة ابن الصلاح" للإمام الزركشي (3/600).
وصحّح حديثَه العلامةُ المحدِّث أحمد شاكر؛ فقال في تعليقه على "سنن الترمذي" (1/15، ط. مصطفى الحلبي): [وهو ثقة صحيح الحديث، وقد تكلم فيه كثيرون بغير حجة من جهة حفظه، وقد تتبعنا كثيرًا من حديث، وتفهمْنا كلام العلماء فيه، فترجح لدينا أنه صحيح الحديث، وأن ما قد يكون في الرواية في الضعف إنما هو ممن فوقه، أو ممن دونه، وقد يخطئ هو كما يخطئ كل عالم وكل راوٍ] اه، وقال في تحقيقه لمسند الإمام أحمد (1/202، ط. دار الحديث): [وهو ثقة تكلموا فيه من قبل حفظه بعد احتراق كتبه، ونحن نرى تصحيح حديثه إذا رواه عنه ثقة حافظ من المعروفين] اه.
وخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه: يرويها الإمامُ عبد الله بن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحِمْيَرِي، عن بَحِير بن ذاخر المَعَافِري، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
فأمّا بَحِيرُ بنُ ذَاخِر: فهو التابعي الثقة الجليل أبو علي بَحِيرُ بنُ ذَاخِرِ بنِ عامِر المَعَافِرِيّ الناشِريّ المصريّ، وهو "من تابعي أهل مصر"؛ كما يقول الإمام أبو حاتم الرازي في "الجرح والتعديل" (2/411)، وهو صاحب عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ كما يصفه الحافظ ابن حجر في "تبصير المنتبه" (1/60، ط. المكتبة العلمية)، ومجالستُه لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ثابتةٌ في "فتوح مصر والمغرب" لابن عبد الحكم (ص: 166)، وسماعه منه ثابتٌ في كتاب "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 300، ط. مكتبة الصحابة).
وهو يروي عن جماعة من الصحابة؛ منهم: عمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ومَسْلَمَةُ بنُ مُخَلَّدِ بنِ الصامتِ الأنصاريُّ الخزرجيُّ رضي الله عنه -وكان سيّافًا له-، وعُقبةُ بن نافع القرشي رضي الله عنه -وفي صحبته خلاف-، ويروي أيضًا عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم؛ كما في "تاريخ ابن يونس" (1/58، ط. دار الكتب العلمية)، وكان مِن حَرَسِ عبد العزيز بن مروان؛ كما في ترجمة بَحِيرٍ مِن "التاريخ الكبير" للإمام البخاري (2/138، ط. دائرة المعارف العثمانية).
وقد حدَّث عنه جماعة؛ منهم: ابنه عليُّ بن بَحِير، وعبد الله بن لهيعة، والأسود بن مالك؛ كما في "تاريخ ابن يونس" (1/58)، وروى عنه غيرُهم أيضًا؛ كما ذكر الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (3/211، ط. دار الغرب الإسلامي).
وهو ثقة جليل لم يطعن فيه طاعنٌ بجهالة أو جرح؛ فقد وثَّقه الحافظ ابن حبان؛ حيث ذكره في ثقات التابعين من كتابه "الثقات" (4/81، ط. دائرة المعارف العثمانية)، ووثَّقه الحافظ ابن قُطْلُوْبَغَا الحنفي [ت879ه] في كتابه "الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة" (3/6، ط. مركز النعمان صنعاء).
ومما يدل على ثقة بَحِيرٍ وضبطه وإتقانه: أنه سمع خطبةَ عمرو بن العاص رضي الله عنه مع أبيه ذَاخِرٍ، ثم أعادها عليه كما سمعاها، حتى عجب أبوه من حفظه لها وإتقانه لعباراتها، وهذا من دلائل ضبطه وجودة روايته.
ويرويها عن بَحِيرِ بن ذاخرٍ: الأسودُ بنُ مالك الحِمْيَرِيّ، وروايتُه عن بَحِير معروفة؛ فقد ذكره أهل التراجم وأصحاب التواريخ في الرواة عنه؛ كما في "تاريخ ابن يونس" (1/58)، وكما في "الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب" للأمير الحافظ ابن ماكولا (1/197، 3/374، ط. دار الكتب العلمية)، وكما في "تهذيب مستمر الأوهام" له أيضًا (ص: 96، ط. دار الكتب العلمية)، وكما في "تاريخ الإسلام" للحافظ الذهبي (3/211)، وكما في "الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة" للحافظ ابن قطلوبغا (3/6).
والأسود بن مالك وإن لم يُذكَرْ له راوٍ غيرُ ابن لهيعة إلا أنه معروفٌ عند أهل مصر بروايته خطبةَ عمرو بن العاص رضي الله عنه عن بَحِيرِ بن ذاخر المَعَافريّ، ولا يُعرَف لها راوٍ غيره، وقد أثبت المحدِّثون رواية بَحِيرٍ لهذه الخطبة عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهذا يدل على إثباتهم وقبولهم روايةَ الأسود لها عنه؛ فإنه لا يرويها عنه غيرُه، ولو كانت رواية الأسود مردودة لَمَا صحَّ جزمُ المُحدِّثين وأصحاب التواريخ والتراجم برواية بَحيرٍ لها:قال الحافظ أبو سعيد بن يونس [ت347ه] في "تاريخه" (1/58): [بَحِيرُ بنُ ذاخِر بن عامر المعافرىّ، ثم النّاشرىّ: حدث عن عمرو بن العاص، وابنه، ومسلمة بن مخلد، وعقبة بن نافع. حدث عنه: الأسودُ بن مالك الحميرىّ، وابنُ لهيعة، وكان سيّافا لمسلمة، وروى أيضًا عن عبد العزيز بن مروان. روى عنه ابنُه علي بن بَحِير بن ذاخر] اه.
وقال في موضع آخر من "تاريخه" (1/212): [سعيد بن ميسرة بن جنادة: يكنى أبا عثمان، كان عالما بأخبار مصر، روى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم خطبةَ عمرو بن العاص رضي الله عنه] اه، ونقله الحافظ ابن ماكولا في "الإكمال" (2/154) معتمدًا إيّاه.
وقال الإمام الحافظ الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" (1/157): [بَحِير بن ذاخِر, عن عَمْرو بن العاص رضي الله عنه: الخطبة التي خطبها بمصرَ] اه.وقال في موضع آخر من "المؤتلف والمختلف" (2/1002): [وبَحِير بن ذَاخِر, يَرْوي عن عَمْرو بن العاص رضي الله عنه خطبته بالفسطاط] اه، ثم أسندها عنه بتمامها كما سبق إيراده.
وقال العلّامة المتقي الهندي في "كنز العُمّال" (14/168، ط. مؤسسة الرسالة): [لم أرَ للأسود ترجمة، إلا أن ابن حبان ذكر في "الثقات" أنه يروي عن بحير بن ذاخر، ووثق بحيرًا] اه.
فإن قيل: الأسود بن مالك لم يرو عنه إلّا واحد، وهذا يقتضي كونه مجهولًا مردود الرواية.فالجواب: أن المحققين من أهل الحديث، في القديم والحديث، قد نَصُّوا على أن رواية الإمام العدل عن المجهول غير المجروح، في مقام الاحتجاج: كافيةٌ في تَقْوِيَتِه وتعديله، كأبي حاتم وأبي زرعة الرازيَّيْن، وابن خزيمة وابن حبان، وهو ظاهر صنيع الشيخين البخاري ومسلم في بعض أحاديث الوحدان، وهو قول الحنفية، وعزاه الإمام النووي في "شرح مسلم" لكثيرين من المحققين، واستظهره الإمام الزركشي وجزم به الحافظُ السخاوي، وغيرهم.
قال الحافظ ابن أبي حاتم [ت327ه] في "الجرح والتعديل" (2/36، ط. الهند): [باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه أنها تُقوِّيه، وعن المطعون عليه أنها لا تُقوِّيه..
سألتُ أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه؟ قال: إذا كان معروفا بالضعف لم تُقَوِّه روايتُه عنه، وإذا كان مجهولا نفعه روايةُ الثقة عنه..
سألتُ أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوى حديثه؟ قال: أي لعمري، قلتُ: الكلبي روى عنه الثوري؟ قال: إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي يُتَكَلَّم فيه] اه.
وقال الإمام الزركشي في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (3/390): [والظاهر أن رواية إمام ناقل للشريعة عن رجل في مقام الاحتجاج كافٍ في تعريفه وتعديله، وقد سبق أن البزار وابن القطان على أن رواية الجلة عن الشخص تثبت له العدالة] اه.
وقال الإمام الحافظ السخاوي في "فتح المغيث" (2/47-53): [وقد قبل أهل هذا القسم مطلقا من العلماء من لم يشترط في الراوي مزيدا على الإسلام، وعزاه ابن المواق للحنفية.. وهو لازم كل من ذهب إلى أن رواية العدل بمجردها عن الراوي تعديل له، بل عزا النووي في مقدمة شرح مسلم لكثيرين من المحققين الاحتجاج به. وكذا ذهب ابن خزيمة إلى أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور. وإليه يومئ قول تلميذه ابن حبان..
وبالجملة: فرواية إمام ناقل للشريعة لرجل ممن لم يرو عنه سوى واحد في مقام الاحتجاج كافية في تعريفه وتعديله] اه.
وهذا يقتضي أن روايةَ عالمِ مصر وإمامِها وقاضيها وفقيهِها ومُحدِّثِها؛ عبدِ الله بن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، مما يرفع وصف الجهالة أو حكمَها عنه؛ فإن ابن لهيعة هو "محدِّثُ مصر، الذي لا يشبهه أحد بها في ضبط الحديث وإتقانه"؛ كما يقول الإمام أحمد بن حنبل، و"رَاوِيَةُ المصريين"؛ كما يقول أحمد بن صالح، و"صاحب حديث أهل بلده"؛ كما يقول علي بن المديني، والذي "عنده الأصول"؛ كما يقول سفيان الثوري، والذي "ما خلَّف مثلَه"؛ كما يقول الليث بن سعد، و"الصادق البار"؛ كما أقسم بذلك عبد الله بن وهب. ومن كان بهذه المثابة فغير مُستَنكَرٍ في حقه ولا بمُسْتَكثَرٍ عليه أن ينفرد في فضائل أهل بلده بما لا يرويه غيره.
كما أن الأسود بن مالك من أهل القرون المفضلة؛ فإنه من طبقة أتباع التابعين، والظن الحسن يسبق إليهم فهم أولى الناس به، ومظنة التوثيق فيهم غالبة، بل هي الأصل فيهم؛ لِمَا أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ».
وقد نص العلماء على أن المجهول من أهل القرون المفضلة جهالة مطلقةً يُستأنَس بروايته ويُستضاءُ بها، فكيف وقد ارتفعت الجهالة عن الأسود برواية ابن لهيعة عنه وقبول العلماء لروايته!قال الحافظ ابن كثير في "الباعث الحثيث" (ص: 97، ط. دار الكتب العلمية): [فأما المُبهَم الذي لم يُسَمَّ، أو مَن سُمِّيَ ولا تُعرَف عينُه: فهذا ممن لا يَقبَلُ روايتَه أحدٌ علمناه. ولكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لهم بالخير: فإنه يُستَأْنَس بروايته، ويُستَضاءُ بها في مواطن. وقد وقع في مسند الإمام أحمد وغيره من هذا القبيل كثيرٌ. والله أعلم] اه.
ونقله الحافظ السخاوي في "الغاية في شرح الهداية في علم الرواية" (ص: 126، ط. مكتبة أولاد الشيخ)، ثم قال عَقِيبَه: [وكذا قال شمس الأئمة من الحنفية، وقلنا المجهول من القرون الثلاثة عدل بتعديل صاحب الشرع إياه، ما لم يتبين منه ما يزيل عدالته فيكون خبره حجة. وهو محكي عن إمامه أبى حنيفة أنه قبله في عصر التابعين خاصة، لغلبة العدالة عليهم] اه.
فإذا أضيف إلى ذلك كون هذه الرواية في الفضائل والأخبار فإنها تكون في محل القبول، ولا وجه لردها؛ فإنه من المقرر أنه يُكتفى في أحاديث الفضائل بأقل شرائط القبول في الرواة ليكون الحديث مقبولًا حسنا، وذلك باتفاق المحدثين؛ لأنه لا يترتب على الفضائل أحكام، فلا أقلَّ من العمل برواية من روى عنه واحد ولم يثبت فيه جرح ولا ما يُترَك حديثُه لأجله، وتلقى الأئمة روايته بالقبول، بل تكون روايته صحيحة؛ لتلقي الأئمة لها بالقبول، على أن الخلاف في قبول من هو أقل من ذلك ممن لم يرو الأئمة روايته قد جرى فيه احتياطًا لأحكام الدين وأمور الشريعة، والأمر في الفضائل لا يستوجب هذا الاحتياط؛ لعدم ترتُّب الأحكام الشرعية عليها.
فنقل الحافظ السخاوي في "فتح المغيث" (1/350) عن الإمام ابن مهدي قولَه: [إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال] اه، وقولَ الإمام أحمد بن حنبل: [الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم] اه، وقولَ الحاكم: [سمعت أبا زكريا العنبري يقول الخبر إذا ورد لم يحرم حلالًا ولم يوجب حكمًا وكان في ترغيب أو ترهيب أغمض عنه وتسوهل في رواته] اه.
وقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (6/39، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية): [وأحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى ما يحتج به] اه.
وهذا الصنيع من المُحَدِّثين في سياقتهم لخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه وجزمهم بروايتها يبين أنهم لم يتعاملوا مع الأسود بن مالك الحميري تعاملهم مع المجهول الذي تُرَدُّ روايتُه، يقتضي أن تفرد الأسود بن مالك بروايتها لا يطعن في ثبوتها:
من المقرر عند المحدِّثين أن الراوي إذا كان قليل الحديث كان من السهل عليه ضبط حديثه وإتقان حفظه، إلا أن الأسود بن مالك لم يكن ذا شهرة تجعله محط رحال المحدثين، فيشتهر بينهم وتنطلق ألسنتهم بمدحه والثناء عليه، أو ذمه والحط منه، لذا بقي هذا الراوي دائرًا في فلك خاص به، فليس هو بالحافظ المشهور ولا بالضعيف المردود، فيكفي للحكم بتوثيقه أقلُّ مرجِّح لكونه ثقة، وفي كون هذا الراوي معروفًا بخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وروى عنه إمام عالم ثقة، ورواها عنه أهل بلده: ترجيحٌ لقبول الرواية.
وهذه الخطبة قد قبلها أهل مصر من المحدثين وأصحاب التواريخ والتراجم، ورووها في كتبهم من غير نكير: فمنهم:
(الإمام المحدث المؤرخ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم [ت257ه] في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 166-167)، والإمام الحافظ المؤرخ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي [ت347ه] في "تاريخ مصر"، والعلامة المؤرخ أبو عمر محمد بن يوسف الكندي [ت بعد 355ه] في "فضائل مصر المحروسة" (ص: 2)، وحافظُ عصره الإمامُ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني [ت385ه] في "المؤتلف والمختلف" (2/1003-1004)، والإمامُ المؤرخ أبو محمد
الحسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي الفقيه [ت387ه] في "فضائل مصر وأخبارها" (ص: 83)، والعلامة شمس الدين أبو عبد الله بن الزيات [ت814ه] في "الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة" (ص: 6، ط. المكتبة الأزهرية للتراث)، والعلامة المؤرخ تقي الدين المقريزي [ت845ه] في "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"
(1/46، ط. دار الكتب العلمية)، والإمام المؤرخ أبو المحاسن جمال الدين بن تغري بردي [ت874ه] في "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (1/29، ط. دار الكتب المصرية)، والعلامة المؤرخ ابن ظهيرة [ت888ه] في "الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة" (ص: 76، ط. دار الكتب)، والإمام الحافظ السيوطي [ت911ه] في "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" (1/14، 153، ط. دار إحياء الكتب العربية)، والإمام أبو البركات أحمد بن إياس الحنفي [ت930ه] في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" (1/6، ط. دار الباز)، والإمام العارف محمد بن أبي السرور البكري [ت1087ه] في "الروضة المأنوسة في أخبار مصر المحروسة" (ص: 50، ط. مكتبة الثقافة الدينية)، وغيرهم.وقد التزم جماعة منهم الصحة فيما يذكرونه: قال العلامة الكندي في "فضائل مصر المحروسة" (ص: 1): [فجمعت ما أمر به من كتب شيوخ المصريين وغيرهم من أهل العلم والخبرة، والبحث والذكاء والفطنة، والتفتيش والرحلة والطلب] اه.
وقال العلامة ابن إياس الحنفي في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" (1/9، ط. مكتبة دار الباز): [انتهى ما أوردناه من الآيات الشريفة، والأحاديث النبوية، في أخبار مصر، ومُعوَّلي في صحة هذه الأحاديث والأخبار، بما أورده الشيخ جلال الدين الأسيوطي في كتابه المسمَّى "بحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"] اه.
وقد تقرر عند المحدثين أن قبول العلماء للحديث مما يصححه أو يقوي الاحتجاج به:قال الإمام العارف أبو طالب المكي [ت386ه] في كتابه "قوت القلوب في معاملة المحبوب" (1/300، ط. دار الكتب العلمية): [وقال بعض العلماء: الحديث وإن كان شهادة فقد وُسِّعَ فيه بحسن الظن كما جُوِّز فيه قبولُ شهادة واحد؛ أي: للضرورة؛ كشهادة القابلة ونحوها، وروينا معناه عن الإمام أحمد بن حنبل رضي لله عنه، والحديث إذا لم ينافه كتاب أو سنّة -وإن لم يشهدا له- إن لم يخرج تأويلُه عن إجماع الأمة:
فإنه يوجب القبول والعمل؛ بقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ!»، والحديث الضعيف عندي آثر من الرأي والقياس، وهذا مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه. والحديث إذا تداوله عصران، أو رواه القرون الثلاثة، أو دار في العصر الواحد فلم ينكره علماؤه، وكان مشهورًا لا ينكره الطبقةُ من المسلمين: احتُمِلَ ووقع به حجةٌ، وإن كان في سنده قول، إلا ما خالف الكتاب وال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.