لو كان هدف المتظاهرين الجمعة الماضية هو فقط اقتحام سفارة العدو الصهيوني، لانفضوا من حول السفارة بعد انتهاء مهمتهم ولرجعوا لبيوتهم سالمين، لكن أن يشتبكوا لساعات بعد ذلك مع قوات الأمن فتسيل دماء المصريين وتزهق أرواح ثلاثة ويصاب أكثر من ألف، فذلك أمر يستحق النظر والتحليل. بدأت جمعة "تصحيح المسار" بداية هادئة وضعيفة، حتى أن من صلوا الجمعة لم يتعدوا عشرة آلاف على أكثر تقدير. بعد ذلك بدأت الأعداد تزداد وكان من الواضح أن شريحة كبيرة منهم من جماهير كرة القدم (الألتراس). بعد الساعة الثالثة عصرا توجهت من ميدان التحرير جموع إلى مبنى وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن المحبوسين من مشجعي الألتراس. كانت الوزارة خالية تماما من أي قوات أمامها. رجعت هذه الجماهير وتفرقت، ولكنها لم تلبث أن عادت مرة أخرى من ميدان التحرير، ولكن في هذه المرة بتصميم على الاشتباك والتحرش بقوات الأمن الموجودة داخل مبنى الوزارة. لم تنجح هذه الاستفزازات فقام المتظاهرون بتهشيم واجهة المبنى. عاد المتظاهرون إلى ميدان التحرير وكان العدد قد بلغ عشرات الآلاف، فتوجهت مجموعة كبيرة منهم إلى مبنى دار القضاء العالي وأخذت تطوف بشوارع نص البلد، ولم تكن هناك أيضا قوات أمن فلم تحدث أي اشتباكات. عاد المتظاهرون لميدان التحرير، ثم خرج بضعة آلاف مرة أخرى، هذه المرة إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون بماسبيرو، والتزمت حراسة المبنى بضبط النفس ولم تقع اشتباكات. بعد ذلك توجهت جموع لمبنى مديرية أمن الجيزة ولمبنى الأدلة الجنائية بتصميم على التحرش والاعتداء على قوات الأمن، ووقعت بالفعل اشتباكات دامية وتم حرق أكثر من عشر سيارات للشرطة. ثم توجهت لمبنى السفارة الإسرائيلية وقامت بهدم السور الأمامي وتسلقت مجموعة للمبنى وقامت باقتحام مقر السفارة وإلقاء أوراق السفارة من غرفة تتخذها السفارة مخزنا لها. ثم بدأت اشتباكات دامية مع قوات الأمن أظهرت صور الفيديو أن المتظاهرين كانوا دائما في موقف الهجوم على أفراد وسيارات الشرطة. وخرجت الصور وكأننا في ساحة حرب أهلية وطارت هذه الصور لوكالات الأنباء لتعطي معنى واحدا ظهر في عناوين الأخبار والصحف العالمية: "مصر غير آمنة – الانفلات الأمني يزداد – صراع بين الشرطة والشعب – الدولة ليست لها هيبة في الشارع المصري". الحقيقة المؤكدة في هذه الأحداث أن كل المتظاهرين والمخربين خرجوا من ميدان التحرير وعادوا إليه عدة مرات. لقد تنصل منظمو المظاهرة من الأحداث التي وقعت ونفوا مسئوليتهم عنها وقد عادوا إلى بيوتهم ليشاهدوا على شاشات التليفزيون الجريمة التي وقعت بحق استقرار مصر وأمنها، ولم يبد أحد منهم اعتذارا باعتباره المسئول الذي دعا إلى المظاهرة وأشرف على تنظيمها، بل سارعوا كلهم لمداخلات هاتفية حتى أثناء وقوع الاشتباكات الدامية ليلقوا باللوم على الشرطة في استخدامها "المفرط" للقوة. وما لبثوا أن انتشروا في اليوم التالي على الفضائيات ليحللوا ويرموا بالمسئولية على الشرطة وحكومتها ومجلسها العسكري. أكبر حركتين شاركتا في المظاهرة كانتا حركة 6 إبريل وائتلاف شاب الثورة. أما الأولى فتنصلت تماما من أحداث السفارة بينما أظهرت صور الفيديو شبابا في الاشتباكات يرتدون قمصان الحركة وشعارها. وأما ائتلاف شباب الثورة فكان أكثر شفافية عندما اعترف الناطق باسمهم أنه كان هناك مندسون في المتظاهرين وأنه شاهد أعدادا منهم مسلحين بالأسلحة البيضاء في ميدان التحرير. ولكنهم لم يعلقوا على اعتداء المتظاهرين على وزارة الداخلية ومديرية أمن الجيزة. أما الجمعية الوطنية للتغيير فاكتفت بإصدار بيان تستنكر فيه ما أسمته (بتطور الأحداث خارج سياق مليونية "تصحيح المسار" بصورة تتسم بالعنف يكتنف فيها الغموض و تتطلب المزيد من التدقيق لتكوين فهم واضح لمجريات الأمور). والغريب أن الدكتور البرادعي صرح قبل المظاهرة بأيام أنه يرى أن تمتد الفترة الانتقالية لمدة سنتين برغم كراهيته لحكم العسكر، وتوقع ثورة ثانية غير سلمية. لقد كان واضحا من سياق الأحداث يوم الجمعة أن هناك تصميما على الاحتكاك بالشرطة والاشتباك معها والوصول بالمظاهرات لنقطة الصدام. لقد كانت هناك مؤشرات في الأسبوعين الأخيرين على تحسن ولو طفيف في الأداء الأمني ورأينا حملات للشرطة في القاهرةوالجيزة وغيرهما من المحافظات لإزالة التعديات على الطرق والميادين وزادت أكمنة الشرطة في المحاور المرورية، وهي خطوات كانت تستحق الإشادة والتشجيع والإبراز في أجهزة الإعلام ليعود الاستقرار الأمني تدريجيا، ولكن يبدو أن هناك من أقلقه هذا التطور وآلمه أن يرى مصر تتقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام فأراد أن يعود بها خطوات إلى الوراء. لقد وقعت الحكومة والمجلس العسكري في أخطاء سياسية فادحة بإقامة السور المستفز أمام السفارة وبعدم اتخاذ موقف صارم مع العدو الصهيوني بعد استشهاد جنود حرس الحدود وبالتخبط في رؤيتها السياسية إذ بينما يستقبل رئيس الوزراء أحمد الشحات الذي قام بإنزال العلم الإسرائيلي وتكريم المحافظة له وإهدائه شقة سكنية، خرجت في نفس الوقت تدين الاعتداء على السفارة. لكن هذه الخطايا السياسية لا ينبغي أن تصرف الأنظار عن من يدبر ويغطي ويبرر المخطط الذي يهدف للإبقاء على حالة عدم الاستقرار وتعميق الانفلات الأمني وينشر الصورة الهمجية التي وقعت بالاعتداء على الشرطة وأدت إلى هذه الخسائر الفادحة. إن أحداث الجمعة وقعت تحت غطاء مظاهرة "تصحيح المسار" ، ولذلك فإن من نظموا هذه المظاهرة وعجزوا عن السيطرة عليها ينبغي أن يحاسبهم الشعب على دماء المصريين التي سالت وعلى التراجع الأمني الذي ستفرزه تلك الأحداث، فضلا عن الخسائر التي ستلحق بالاقتصاد المصري المنهك أصلا. إن أمامنا طريقا واحدا للخروج من الأزمة الحالية وهو الإسراع بإجراء انتخابات تأتي بحكومة لها تفويض شعبي تنحي المجلس العسكري جانبا وتبدأ في بناء البلاد وإحياء مؤسسات الدولة المنهارة. وإن أي خطوات تعرقل هذا الطريق – بحسن نية أو بسوئها – ينبغي أن نتصدى لها ونضرب على أيدي من يروجون لها. د. محمد هشام راغب http://www.facebook.com/Dr.M.Hesham.Ragheb