رصيد الحب للمجلس العسكري لدى الشعب يتعرض للتآكل ويحتاج إلى إعادة شحن، بسبب التباس موقف المجلس من المطالبات بوضع مباديء فوق دستورية، وإصدار إعلان دستوري جديد يتضمنها، لم يعد الصمت على تحميل المجلس تصريحات ومواقف غير حقيقية أمرا مقبولا، بل إنه يسهم في زيادة الضبابية والالتباس حول موقف المجلس ذاته. صمت المجلس العسكري في الفترات الماضية عن نسبة بعض التصريحات والمواقف غير الحقيقية له شجع القوى الليبرالية واليسارية على تحميله بالمزيد من هذه المواقف المعاكسة للإرادة الشعبية التي تعهد الجيش بحمايتها، فحين خرج اللواء محسن الفنجري ببيان تضمن نصا حول المبادئ الحاكمة لاختيار أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور بعد توافق القوى السياسية تم تحريف هذا النص فورا إلى موافقة المجلس العسكري على وضع مبادئ حاكمة للدستور، والغريب أن المجلس لم يتصد لنفي هذه التصريحات ولو على صفحته على الفيس بوك، وهذا ما شجع القوى الليبرالية على التمادي في تحديهم للإرادة الشعبية، وتحرك ممثلوهم في مجلس الوزراء وهم أصحاب الصوت العالي في المجلس أيضا لصياغة وثيقة مبادئ حاكمة أو فوق دستورية ومحاولة دفع المجلس العسكري لتبينيها وإصدارها في إعلان دستوري ملزم، وهو أمر لو حدث فإنه سيشعل نيرانا كثيفة في طول البلاد وعرضها، ذلك أن الأربعة عشر مليون مصري الذي اختاروا خارطة طريق محددة يوم 19 مارس بعد أن رابطوا أمام لجان الاقتراع لساعات طوال وفي طوابير اشد طولا لن يسمحوا لأحد أن ينتهك إرادتهم مرة أخرى وهم الذين ضحوا بالشهداء والمصابين دفاعا عن هذه الإرادة. ليس هناك مبرر واحد لإصدار وثيقة مبادئ حاكمة أو فوق دستورية، وليس هناك مبرر أيضا لوضع مبادئ حاكمة لاختيار أعضاء لجنة الدستور او وضع اية قيود علي اختيار نواب الشعب، وأعتقد ان هناك وثيقتين مهمتين بين أيدينا الآن تحلان محل وثيقة علي السلمي وهما وثيقة الأزهر ووثيقة التحالف الديمقراطي للأحزاب الذي يضم الآن 34 حزبا بينها الأحزاب الرئيسية الحرية والعدالة والنور والوسط والكرامة والوفد والناصري الخ، فالوثيقة الأولى وهي وثيقة الأزهر تمثل مرجعية فكرية مقبولة من الجميع،مسلمين ومسيحيين، إسلاميين وعلمانيين، والوثيقة الثانية هي وثيقة سياسية تلزم موقعيها عند وضع الدستور الجديد ولا أظن أن غالبية أعضاء مجلس الشعب والشورى ستكون خارج أعضاء التحالف الديمقراطي، أي ان أغلبية النواب سيكون ملتزمين بما تضمنته الوثيقة التي وقعتها أحزابهم على أقل تقدير ، وهي تتضمن مبادئ عامة محل توافق وطني تضمن مدنية الدولة واحترام مبادئ الشريعة الإسلامية وصون الحقوق والحريات العامة وحقوق الأقليات، وهي نفسها المبادئ التي يريد العلمانيون وضعها في وثيقة حاكمة أو فوق دستورية ، لكن الفارق بين الاثنين أن الوثيقة الأولى لم يصفها أصحابها بأنها فوق دستورية أو حاكمة، كما أنهم لم يفرضوا أنفسهم أوصياء على الشعب، بل يلزمون أنفسهم فقط بما ورد فيها، ناهيك عن أنها ليست ملزمة للأجيال المقبلة. حين تحدث اللواء الفنجري عن المبادئ الحاكمة لاختيار اللجنة التأسيسية لم يبد فريق الأغلبية تحفظا كبيرا وقتها، على أساس أن المبادئ الحاكمة لن تزيد عن ضمانات لتمثيل كل اطياف المجتمع وفئاته في اللجنة من مهنيين وقضاة وأساتذة جامعات وفقهاء قانون دستوري وعمال وفلاحين وشباب ونساء وأقباط وبدو وحضر فلاحين وصعايدة الخ ولكن هذا السكوت شجع فريق الأقلية على اقتراح نصوص تجعل اختيار أعضاء اللجنة التاسيسية جميعا من خارج أعضاء مجلسي الشعب والشورى المنتخبين من الشعب، وهو ما يخالف نص الإعلان الدستوري الذي يتحدث عن أختيار أعضاء اللجنة من أعضاء المجلسين وغيرهم. رغم أن الرسالة كانت واضحة وقوية في جمعة الإرادة الشعبية يوم 29 يوليو عبر خروج ملايين المصريين في القاهرة والمحافظات، إلا أن مبادرة نائب رئيس الوزراء علي السلمي حول الوثيقة الحاكمة أعادت الحياة لفريق الأقلية الذي ينتمي إليه، ولكنها في المقابل استفزت مشاعر الأغلبية التي تستعد للنزول مجددا، وفي حال نزولها فلن تعود إلى بيوتها قبل ان يرحل السلمي ورئيسه عصام شرف وكل مجلس الأقلية الذي يحكم مصر الآن. المجلس العسكري أمامه فرصة لإعادة شحن رصيده لدى الشعب بعد التآكل الذي اصابها نتيجة مواقفه الملتبسة من موضوع الدستور والهوية، ونتيجة تحويل المدنيين إلى محاكم عسكرية، وهذه الفرصة تتمثل في صدور بيان واضح يؤكد مجددا احترام خيار الشعب، وينفي تماما النية لإصدار وثيقة مبادئ دستورية أو حتى وثيقة اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية. نصيحيتي للمجلس الأعلى ولكبار قادته أن يعدلوا بين فئات وقوى الشعب المصري، إذ ليس معقولا أن يستمع المجلس فقط لأصوات القوى الليبرالية عبر حوارات ولقاءات مع بعض المثقفين والكتاب بين الحين والآخر وكأن هذه القوى هي التي تضم بين صفوفها كتابا ومثقفين، وكأن التيارات الأخرى خصوصا التيار الإسلامي لايضم هذه النوعية من البشر رغم انه أكثر ثراء بها لكن سنوات القهر الستين الماضية حرمت هذه النخبة الإسلامية من الظهور عبر وسائل الإعلام الرسمية، ولاتزال هذه النخبة حتى الآن تتعرض للحصار من إعلام الدولة والقوى الليبرالية، ويزداد الظلم على هذه الفئة حين يتجاهلها المجلس العسكري في لقاءاته المتعددة مع الكتاب والمثقفين رغم سبق التنبيه على هذا الأمر. أرجو أن يحسم المجلس العسكري الجدل القائم حاليا حول ما يسمى بالمبادئ الحاكمة، حتى تهدأ النفوس، وتتفرغ للعمل والبناء والاستعداد للانتخابات البرلمانية بدرجة أقل من التوتر والحساسية.