من الصعب أو ربما المستحيل أن تتحدث عن نجاح ديمقراطية في بلد دون أن يمهد له قاعدة إجماع وطني على مبادئ مشتركة عامة تسع الجميع ويتقبلها عموم الأمة بقدر أو آخر ، ويستوعبها كطريق للتعايش وإدارة شؤون الحياة ، ويطمئن إلى أنها الخيار الأفضل أو الأقل سوءا ، ثم تتشخص هذه القاعدة في مشروعات سياسية وكتل سياسية وأحزاب سياسية ، وفي الديمقراطيات العريقة والأكثر استقرارا يمكن ملاحظة قاعدة الإجماع الوطني واضحة تماما ، رغم ما تمور به تلك المجتمعات من جدل فكري وديني وأيديولوجي ، ومع ذلك وفي الجوهر السياسي تبدو الفروق بين الأحزاب السياسية هامشية ، ومعظمها تتعلق برؤى متصلة بنظام الضرائب أو قوانين تطوير الاقتصاد وما شابه ذلك ، ولذلك عادة لا تتغير سياسات تلك الدول بصورة مفاجئة أو حادة في أوقات قصيرة ، وكذلك سياساتها الدولية يكون تغير حساباتها في نطاق محدود حول أولويات المصالح القومية ، وهذا هو ما ينقص مصر وكثير من العالم الثالث ، مثل أفريقيا ، حيث يهيمن الانقسام وربما التمزق الأيديولوجي أو العرقي أو الطائفي على المجتمع والحالة السياسية فيه ، بما يتعذر معه العثور على "قاعدة إجماع وطني" (غالبية مقنعة) تتيح إبراز قوة سياسية وسطية جامعة كتلك التي وصفها المستشار طارق البشري "بالتيار الأساسي في الأمة" . مصر عرفت "قريبا" من هذه القوة السياسية الوسيطة والمعبرة عن التيار الأساس في الأمة ، وذلك في فترة نصف القرن العشرين الأول ، وكان ممثلها الفريد هو "حزب الوفد" ، الذي كان يمثل حاضنة سياسية تجمع في عباءتها مسلمين وأقباط وإسلاميين ويساريين وليبراليين ، متدينين وعلمانيين ، في مزج "سياسي" فريد ، نجح في قيادة مصر بنضج ومسؤولية عالية ، رغم خطورة الأوضاع وصعوبتها ووجود قوات الاحتلال ، ورغم الأخطاء التي لا تخلو من أي عمل سياسي ، وكان يمثل حالة إقناع للأمة المصرية وثقة ، كما كان ضمانة للوسطية السياسية الجامعة التي نتحدث عنها ، وكان وهج تلك القوة الوسطية الجامعة من الحضور لدرجة أن أي قوة بديلة لم تفلح في أن تكون بديلا ، فالجميع كان يعيش على حوافه وهوامشه ، من أحزاب أو قوى دينية أو تنظيمات شعبية غير مقننة مثل الأحزاب الشيوعية ، وظل هذا الحزب الوسطي الجامع يقود الحياة السياسية في مصر والدولة المصرية ذاتها حتى قامت حركة الضباط في يوليو 1952 . خلال عامين من انتصار حركة الضباط 52/54 كان الجدل والخلاف قائما بين فريقين من قادة الحركة ، فريق يرى استعادة المسار الديمقراطي بعد أن تمت إزاحة الملك ، وعودة الجيش لثكناته ، وفريق يرى أن المرحلة ينبغي أن تكون أساسا جديدا بالكلية لجيل جديد وأفكار جديد ونظام جديد ، وقد انتصر الفريق الثاني بقيادة عبد الناصر ، وهمش الفريق الأول أو سحقه كما فعل في اللواء محمد نجيب ، لتمضي مصر من يومها في مسار تفريغ المجتمع من أي فعل سياسي ديمقراطي حقيقي ، وتحولت الكتل السياسية التي يتم تصنيعها على يد السلطة إلى ما يشبه الجهاز الإداري الموازي للدولة ، فهي ليست أحزابا حقيقية تملك قرارها أو أفكارها أو حتى اختيار كوادرها وقياداتها ، وإنما جهاز مدني موازي لتنفيذ رؤية "السلطة الحقيقية" والتي تتمثل في الجيش وأجهزته الأمنية ، والطريف أنه كان من بين الأهداف الستة لحركة الضباط: إقامة حياة ديمقراطية سليمة ! . وحتى عندما جاء السادات بفكرة عودة الأحزاب تدريجيا ، كان الحرص على "ديكورية المشهد السياسي" وليس صناعة حياة سياسية حقيقية ، ولا يوجد في الحقيقة تلك السلطة التي تساعد على تفعيل حراك سياسي يسحب منها سلطاتها بعد ذلك ، وعندما أنشأ السادات حزب مصر العربي الاشتراكي ومن بعده مع مبارك الحزب الوطني ، لم تكن أحزابا في الحقيقية ، بل جهاز مدني شعبي معاون للسلطة لتنفيذ إرادتها وخططها وتوجهاتها بصورة تبدو مدنية ويتم تصنيع كوادره واختيار قياداته من قبل ترشيحات المؤسسة الأمنية ، وعندما أراد السادات إيجاد حزب جديد باسم "الحزب الوطني الديمقراطي" تم تفكيك حزب مصر العربي الاشتراكي خلال أقل من أسبوع ، وانتقل بكامله إلى الحزب الجديد ، أو يمكن القول بأن اللافتة فقط تغيرت ، وهي اللافتات التي كانت تغطي تلك العملية منذ الاتحاد القومي والاشتراكي وخلاياه "الطليعية" وحتى سقوط مبارك، وعندما تبحث السلطة الحالية في عهد السيسي لصناعة "تجمع" حزبي جديد تنفذ من خلاله خططها وإرادتها السياسية فإنها تبحث في نفس الوجوه القديمة ، أبناء البنى القديمة ، مع استثناء الوجوه الأكثر إحراجا للإيحاء بأننا أمام نظام جديد وعهد جديد وحزب أو جبهة جديدة . مصر الآن ، في حاجة ماسة إلى تأسيس قاعدة الإجماع الوطني (توافق شعبي واسع على مبادئ محددة وجامعة) ، وتمثلها في حزب أو جبهة سياسية شعبية واسعة وجادة ومتماسكة وتملك رؤيتها للمستقبل ، جبهة تتجاوز الشقوق الأيديولوجية والطائفية والتاريخية ، فهذه الجبهة هي "البديل" الحقيقي لعسكرة الدولة ، كما أنها البديل لهيمنة قوى دينية متشددة على الدولة ، وهي الضمانة لإدماج الأحزاب أو القوى السياسية الإسلامية في مشروع وطني مدني حقيقي ، يحقق لها بعض طموحها السياسي والقيمي والروحي والتشريعي بالقدر الذي يحقق للآخرين طموحهم السياسي والقيمي والروحي والتشريعي ، بإبداع أفكار وسطية مقنعة للجميع ، وبما يحافظ على دولة ديمقراطية مدنية ترعى الحريات وتعمق الخبرة الديمقراطية عمليا في الوطن وترسخ فكرة تداول السلطة وتحمي كل فعاليات وأدوات المجتمع المدني ، وتعزل مؤسسات الدولة : العسكرية والأمنية والقضائية والإدارية عن العمل الحزبي أو السياسي بشكل عام . مصر بلد عريق ، وحتى في تاريخه الحديث ، لديه تراكم خبرة غير قليل ، فقد كان سباقا لتحديث بنيته الإدارية والسياسية والقانونية ، وهو يملك من الطاقات والخبرات التي تساعده على وصل ما انقطع ، واستعادة مكانة هذا البلد ، نموذجا هاديا للحريات والديمقراطية والإبداع بكل صوره والاستنارة الدينية الحقيقية ، شريطة أن يصح العزم ويصدق إخلاص العاملين .