عندما يبزغ الصنم تغيب الفكرة، ويفقد الإنسان معنى وجوده. هذا مما قاله المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي (1323 -1393 ه 1905-1973م) والصنم الذي قصده متعدد الوجوه. فهو تارة "شخص" قائد ملهم، أو زعيم تاريخي، أو قائد ضرورة. وهو تارة أخرى "وطن" لا مثيل له، وجنة الله في أرضه، ومبتدأ الدنيا وخبرها، وما سواه لا شيء سوى أنه تبع له، وصورة باهتة من أصله. وهو تارة ثالثة "أيديولوجية"، أو طبقة، أو حزب، أو جماعة، أو طائفة؛ تحل كل العقد، وتقضي على كل المظالم، وتحقق كل الآمال، وتجلب للناس الفردوس من علياء السماء إلى واقع الأرض، ومن عالم الغيب إلى عالم الشهادة. ولتحرير البشر من أسر هذه الصنمية ولأسباب أخرى كثيرة جاءت دعوة الإسلام للإنسان كي تحرره أولا وقبل أي شيء آخر، وتحفظ عليه إنسانيته، وتحصنه من الوقوع فريسة للأصنام التي قد تعترض حياته وتسحق إنسانيته، وتستعبده، رغم أنها أوهى من بيت العنكوبت، ورغم عجزها بذاتها عن النفع أو الضرر؛ وإنما يخيل للإنسان الذي يقع فريسة لها أنها قادرة على كل شيء؛ في حين أنها تستمد قوتها من ضعفه، وصلابتها، من وهنه، وجبروتها من امتثاليته وانصياعه لها دون أن يسائل نفسه ويسائل قومه ولو مرة واحدة: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون"؟ كما فعل أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام. قال تعالى" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ . قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ . قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ . أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ . قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ . قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ.( الشعراء :69-77). أصنام وليس صنما واحداً؛ ظلوا لها عاكفين عابدين زمناً طويلاً دون أن يجرؤ أحدهم على مساءلة نفسه أو قومه عن قيمتها وجدواها، إلى أن جاءهم سيدنا إبراهيم عليه السلام ليقرع آذنهم بسؤالين في غاية البداهة: هل يسمعونكم إذ تدعون؟ أو ينفعونكم أو يضرون؟. فكان جوابهم تكثيفاً لحالة البلاهة التي يعيشون فيها، وإعلاناً عن أنهم فقدوا إنسانيتهم وحريتهم بغير وعي، ومن ثم فقدوا حرية الاختيار وجسارة المساءلة. وهنا أخبرهم نبي الله بكلمات حاسمة مؤكداً على أن أصنامهم المتعددة لاقيمة لها، وأنه يعلن صراحة عداءه لها، وأن إقراره بوحدانية الله وربوبيته للعالمين هو أساس إيمانه ومصدر قوة فكرته، ومنبع شعوره بإنسانيته وقدرته على إثبات وجوده، وأن بإمكانهم فعل ذلك، ولكن أنى لهم ذلك وقد فقدوا إحساسهم بمعنى إنسانيتهم وارتكسوا تحت أقدام هكذا "أصنام". كانت الأصنام في الجاهلية مجسدة في صورة تماثيل تحوطها هالة من "الهيبة والقدرة" حاكتها أساطير متوارثة، وقصص متداولة في مجالس اللهو غالباً؛ حيث تكون الأذهان مهيأة في لحظات اللهو لقبول ما يلقى عليها من ترهات وخزعبلات يرغب سدنة الأصنام في إشاعتها كي يرسخوا سلطانهم، ويبنوا مجدهم الشخصي على أنقاض إنسانية أمثال هؤلاء الذين ينصتون إليهم ويصدقونهم وهم لاهون و"سامدون". ولكن ما أن تذهب السكرة وتأتي الفكرة؛ لا يجد "إنسان دولة الصنم" إلا بذل مزيد من الامتثال والخنوع ؛ ولما يذيعه سدنة الأصنام والمتسترون خلفها من أساطير وخرافات تضمن لهم الهيمنة على إرادتهم، وإفقادهم القدرة على التفكير، وتزييف وعيهم على مدار ساعات الليل والنهار. ومن هنا كان الغرس الأول في أرض "دولة الخوف"؛ التي ما فتأت تنمو وتستفحل؛ حتى بات لا يسمح فيها بظهور أحد إلا وهو جاثٍ أمام الصنم يسبح بحمده، أو ثاوٍ يتمتم برجاءاته، دون أن يُسمح له بمساءلة هذا الصنم أو ذاك عما تحقق منها كي يشكره عليه، وما لم يتحقق كي يعرف أسباب عدم تحققها كي يتجنبها في المستقبل!. دولة الأصنام هي الصورة البدائية للدولة الطاغوتية الوضعية التي تصورها توماس هوبز. هي "المسخ" الذي نبتت في أرضه ثقافة الخوف وتشعبت فروعها حتى خنقترقاب البشر وسلبت أرواحهم؛ وكادت تطمس على الحقيقة القائلة: أن الإنسان "خليفة الله في الأرض"، وأن حريته تساوي كيانه وتعادل وجوده. وأن توحيده لله وحده هو الضامن الوحيد كي لا يقع مرة أخرى فريسة استبداد "دولة الصنم"، أو "دولة الأصنام". وأن نجاحه في إقامة "الخلافة على هدي النبوة" هو الدليل الأكبر على أنه نجا من أسر هذه الدولة أو تلك. قرأت قبل ثلاثة عقود ويزيد في "كتاب الأصنام" لهشام بن الكلبي قصة ذات دلالة مؤيدة لما قلناه بصورة مباشرة، وهي قصة مثيرة غاية الإثارة عن بداية نشأة "دولة الصنم". وخلاصتها أن أول من غيَّر دين إسماعيل عليه وعلى أبيه إبراهيم السلام هو "عمرو بن ربيعة أبو خزاعة"، وهليل بن مدركة وغيرهما. وأنه بعد أن يحتكر أبو خزاعة هذا سدانة(خدمة) البيت الحرام، استبد بالسلطة من وراء ستار تلك السدانة، وأنه قاتل منافسيه الذين نازعوه السلطة حتى أجلاهم عن مكة، ثم إنه جلب الأصنام من "بلقاء الشام" بعد رحلة علاج ناجحة لنفسه(تشبه سفر الملوك والرؤساء والأمراء المعاصرين للعلاج بالخارج، ثم يأتون في عودتهم بتعليمات صنمية واردة الخارج واجبة الطاعة)، وذلك بعد أن أخبره أهل البلقاء أنهم يستقون بتلك الأصنام المطر، ويستعينون بها على الأعداء، فأتي بها ونصبها حول الكعبة. وظلت هكذا يتوارثها سدنة الطغيان ويجددونها إلى أن أزالها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن فتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وخرجوا من دولة الأصنام أفواجاً أيضاً. وهنالك كان الرسول الأعظم قد أرسى أسس"خلافة الإنسان"، وبين قواعدها، وشيد أعمدتها، ووضح معالمها؛ لتكون نموذجاً يحتذيه كل التواقين إلى الانعتاق من أسر العبودية، ومن ذل الاستبداد، ومن قهر ثقافة "دولة الأصنام". إذا اعتبرنا أن "عمرو بن ربيعة" هو أول من أسس "دولة الصنم"، فإن لنا أن نقول أيضاً : إن تلك البذرة الخبيثة التي غرسها قد واصلت نموها في رحم التاريخ؛ حتى استوت واستغلظت. واكتسبت بمرور الوقت ملامح لا تخطئها عين حرة. فدولة الصنم لا تقبل مشاركاً لها في السيادة، وهي تدعي التجرد والإطلاق وتمثيل المصلحة العامة وحدها دون غيرها؛ بينما هي متحيزة في الواقع لفئة متنفذة، أو طبقة متحكمة، أو نخبة طاغية. دولة الصنم والعياذ بالله لا تحب إلا ذاتها، ولا تقبل شريكاً لها في السيادة أو السلطة أو الثروة، ولا تتردد في الإطاحة بأي فئة أو مجموعة من حراسها أو الناطقين باسمها أو المتفانين في تأييدها دون سابق إنذار. هذه الدولة الصنمية في صيغتها المعاصرة تأكل قانونها، وتنقع دستورها وتشربه، وتغير أحكام محاكمها، أوتثبتها؛ كلما أحست بلفحة الشوق إلى الاستبداد.هي تفعل ذلك دون أن يسائلها أحد؛ تماماً كما كان زعماء "دولة الصنم" يفعلون عندما يقرصهم الجوع؛ فيأكلون الصنم الذي صنعوه من العجوة، أو العجة، أو العجين. وكله بالعجوة والعجة، أو كله بالدستور والقانون، لا فرق. أما "خلافة الإنسان" فلا تشبه دولة الصنم في شيء. هي بداية ليست نظاماً له هيكل إداري ثابت؛ وليست سلطة ذات شكل دائم لا يتبدل؛ وإنما لها صور وصيغ وتراتيب إدارية متغيرة بتغير الزمان والمكان.هي ليست دعوى يمكن أن يدعيها كل من هب ودب ممن تسوقهم شهوة السلطة، أوتركبهم أهواء نفوسهم، أو تستعبدهم نفوس غيرهم من رعاديد السياسة وعبيد المال والشهوات هنا أو هناك؛ وإنما هي رسالة تحريرية شاملة لكل بني آدم. "خلافة الإنسان" تكون حقيقة اجتماعية ملموسة عندما يكون هدفها عمران الأرض، وعندما تنجح في مهمة العمران. وعندما تتفوق في ترقية نوعية حياة الناس، وصون كرامتهم، وحقن دماءهم. والتسوية بينهم. ونشر العدالة الناجزة. وعندما تصر على تمكين كل ذي عقيدة وكل ذي نحلة من أن يمارس عقيدته وما يدين به براحة تامة، وأن يعبر بحرية عما يؤمن به، دون إكراه أو إغراء من كائن من كان. ذلك هو جوهر "خلافة الإنسان"، وتلك هي رسالتها ووظيفتها في حياة البشر. وهذا هو ما نفهمه من قول بعض علماء السلف إن الخلافة هي "نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به". وشتان بينها وبين "دولة الصنم". فلا نسب يربطهما، ولا أصل يجمعهما. أما يسمونه "خلافة داعش" بأخبار الشناعات والفظائع التي ترتكبها؛ فهي "نيابة عن صاحب البيت الأبيض، في نشر الفوضى، وتشويه الإسلام، وإدانة المسلمين في دينهم ودنياهم". وبمعايير الشريعة الغراء هي والعدم سواء.