سك العلامة حامد ربيع مصطلح "التسميم السياسي" قبل أكثر من ثلاثين سنة. وقصد به بشكل أساسي قيام عدو خارجي بإفقادنا ثقتنا بذاتنا. وهو ما لا أقصده هنا. أنا أقصد هنا ما أسميه "التسميم الإعلامي" الذي تمارسه أكثر الفضائيات وأغلب الصحف المصرية والعربية منذ فترة ليست قصيرة على مواطنيها!! حتى انحطت بالوعي العربي والإسلامي إلى مستوى بالغ التدني والتشوه. وكان المنتظر من وسائل الإعلام "الحديثة" أن تسهم بفعالية في تنوير الرأي العام، وإمداده بالحقائق، وتدريبه على كيفية النظر في القضايا المثارة من زوايا مختلفة، والموازنة بين مختلف الآراء، وتمحيص الحجج والبراهين والأدلة وفق محاكمات عقلية رشيدة. ولكن ما جرى ولا يزال يجري هو أن "الحداثة الإعلامية" بهذا المعنى وصلت إلى بلادنا بالمقلوب؛ فبدلاً من التنوير نجدها تمارس التضليل والتعتيم، وعوضاً عن تعزيز التعددية وثراء الأفكار وتنوعها، نجدها ترسخ "الرأي الواحد" وعبادة الشخص، وفي الوقت الذي انتظرنا فيه أن تسهم في ترشيد الجمهور وحثه على احترام التفكير العقلاني، إذا بها تسهم بهمة ونشاط في تغييبه وإعاشته في عالم من الأكاذيب والخزعبلات. "التسميم الإعلامي" أقصد به هذا الانقلاب الوظيفي في أداء وسائل الإعلام الحديثة في بلادنا التي توظف منجزات ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات فائقة السرعة وواسعة الانتشار لتحقيق أهداف مضادة على طول الخط لقيم الحداثة والتنوير التي ولدت من رحمها، وتعمل بدلا من ذلك في خدمة سلطات الاستبداد السياسي ليقهر قوى التحرر، وتشد من أزر الظلم الاجتماعي لينتشر الفقر، وتزدري الذات الحضارية لتتعزز الهيمنة الأجنبية. "التسميم الإعلامي" يقصف "الوجدان"، ويدغدغ العواطف، ويشتت الانتباه الفردي والجمعي كي يتمكن من تقديم الأكاذيب في صورة حقائق، ويعمي الحقائق ويطمسها، ويصور الفشل على أنه قمة النجاح، والنجاح على أنه الإخفاق بعينه، والصديق في صورة العدو، والعدو في صورة الأخ والصديق الحميم. السمَّاويون الإعلاميون يطلبون منك أن تسلم نفسك لهم، وأن تلغي عقلك تماماً، وأن تبرد إحساسك إلى حد التجمد، وأن ترهف السمع إلى ما يقولون، وألا تحدق كثيراً بعينيك في وجوههم كي لا تكتشف شيئاً مما وراءها من ألاعيب الخداع، وأساليب التلاعب بالعقول. تراهم يرفعون أصواتهم و"يزعقون"، وكثير منهم "يردحون" و"يولولون" في وجوه مشاهديهم، ويسبون، وبعضهم يخلع حذاءه اللامع على الهواء، أو يكيل الاتهامات للآخرين بلا عناء؛ معتمدين على أن مشاهديهم أو أغلبيتهم قد تهيأوا فقط للاستماع، ولا فرصة لديهم للتساؤل: أصحيح هذا الذي أستمع إليه أم خطأ؟ أواقع هو أم محض خيال؟، أدليل عليه يسنده أم هو محض أباطيل؟!. التسميم الإعلامي في حالات الحرب مع العدو الخارجي مختلف عنه في حالات التنافس مع خصم سياسي داخلي. في حالة الحرب يكون التسميم الإعلامي وارداً من الخارج من جهة العدو، ويكون جزءاً من "التسميم السياسي" الذي أشرنا إليها وعرفنا أنه يستهدف هز الثقة بالذات التي تقاوم العدو، وإفقادها القدرة على التركيز، وتشتيت قواها في مسائل فرعية وقضايا جزئية بعيدة عن المعركة الرئيسية مع هذا العدو. وفي حالة الحرب يكون التسميم الإعلامي بهذا المعنى مفهوماً، ومتوقعاً لأننا في حالة مواجهة مع العدو، وكل طرف يوظف ما لديه من أسلحة لإلحاق الهزيمة بغريمه. ودع عنك الآن أي سؤال عن الأخلاق والمبادئ التي يجب أن يتحلى بها كل طرف ليبرهن على شرف خصومته!. والتسميم الإعلامي في حالة الحرب يكون خطره مقدوراً عليه، وخاصة إذا نهضت سلطات الدولة المستهدفة إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بصون الرأي العام في بلدها من خطر هذا التسميم واسع المدى، والحد من فعالية وسائل إعلام العدو في أداء مهمتها وإفشالها إن استطاعت. أما في حالة السلم والتنافس الداخلي بين قوى المجتمع وتياراته السياسية؛ فالأصل فيها هو ألا يستخدم أي طرف الأدوات الإعلامية في تسميم الوعي للنيل من المنافسين، وألا يسعى أي طرف أيضاً للتسميم السياسي من باب أولى؛ لأن المعركة تنافسية في خدمة الوطن، وليست في مواجهة أعداء خارجيين. ولكن الواقع يشهد خلاف ذلك، وخاصة مع الدخول في الجيل الرابع من الحروب، حيث تشن بعض الأطراف الداخلية حروباً معنوية شاملة ضد خصومها من بني جلدتها، وتستخدم في هذه الحروب كل الأسلحة والأدوات القذرة، ومنها ، وفي مقدمتها وسائل التسميم الإعلامي. ويكون هذا التسميم غير مرئي حيناً، ومرئياً حيناً. وهنا يصبح هذا التسميم الإعلامي كارثة بكل المقاييس؛ إذا يفقد الوعي الجمعي الواحد القدرة على تمييز الصواب من الخطأ، والنافع من الضار. ويستشري داء "التناكر" لا التآلف، وتتبارى أجهزة الدولة العميقة في شراء وسائل الاتصال الجماهيري، وتبني لها أذرعاً قوية فيها، ويستجيب لها ذوو الأنفس الضعيفة، والعقول الشائهة المريضة، والأيدي الممتدة بالسؤال والألسن المستطيلة بالإساءة، أو تقوم تلك الأجهزة بالسيطرة علي تلك الوسائل الإعلامية وإرهابها والتحكم في اختياراتها على أقل تقدير. أدوات "التسميم" الإعلامي الداخلية ناقلة ومنتجة للسموم التي تفتك بأبناء وطنها. هي ناقلة لسموم العدو الخارجي مع تخصيصها وحصرها فقط على الخصم الداخلي الذي تستهدفه تلك الوسائل. وهي منتجة لسموم محلية من مواد الكذب والاختلاق وقلب الحقائق وتزييف وقائع التاريخ. وفي هذه الحالة فإن المواطن المستهلِك لهكذا إعلام تسميمي، والمستهلَك (بفتح اللام الثانية) بسبب هكذا إعلام مسمم لا يجد ذاته إلا ممزقة، ولا عقله إلا عاجزاً عن التفكير، ولا روحه إلا معذبه في كل حين. لا يكاد يقر له قرار، ولا يشعر بلحظة من الهناء ساعة من ليل أو نهار. وأعرف شخصيات من مستويات اجتماعية واقتصادية "مرتاحة" جداً جداً جداً على رأي صاحبنا، وليست لديها مشاكل حياتية أبداً، ولكنها من فرط وقوعها تحت القصف الإعلامي المسمم تشعر أن حياتها جحيم، وأن يومها أسوأ من أمسها، وأن غدها أفظع من يومها، ويطاردها شعور مرعب يقول لها: إن سكوتها على الظلم الفاحش سوف يسلمها لأيادي "داعش" عاجلاً أو قد يكون آجلاً؛ رغم أن ظاهر الحال يقول لها اطمئني فالدولة دولتنا والجولة جولتنا. التسميم الإعلامي وقت السلم إذا مارسه طرف ضد طرف منافس له هو خطيئة وطنية، وجريمة وحشية، وخيانة عظمى للأمانة الوطنية. ذلك لأن هذا التسميم يجد أرضاً خصبة في مناخ الاستقطاب، ويستفحل في مناخ الاستئصال وتفاقم مشاعر السخرية من فريق تجاه فريق آخر. وأقول مشاعر السخرية، لا الكراهية رغم أنهما شعوران مرذولان. إلا أن شعور "السخرية" والاستهزاء عندما يسيطر على مجمل علاقات أبناء مجتمع ما مع بعضهم البعض، فهو علامة على وصول التناحر إلى حبل الوريد، ودليل على أن اقتراب ساعة الاحتراب الأهلي واستيقاظ "وحش الغابة" المختبيء في كل نفس بشرية وإطلاقه من عقاله بات وشيكاً؛ حتى ولو كانت هذه النفس قد هذبتها الحضارة وشذبتها التربية المدنية والدينية. هذا بخلاف الشعور بالكراهية الذي رغم سلبيته وبشاعته يولد التحدي، ويشحذ الهمم، ويشعر كل طرف بوجوده وأهميته بالنسبة للطرف المقابل له، بل وأهميته في الحياة عموماً؛ الأمر الذي يدفعه للبحث عن فضائله ومكامن قوته وما يجلب به عطف الآخرين وحبهم، أما الشعور بالسخرية فهو شعور استئصالي، وفعل عدمي يستهدف الخصم في أصل وجوده، ويرسخ لديه إحساساً قاتلا بأنه لا شيء ولا لزوم لوجوده. ولهذا اخترع أحد الخبثاء في الزمن الماضي عقوبة "التجريس" لبعض المذنبين؛ فكان يطاف بهم على حمار يركبونه بالمقلوب ويمشون وسط العامة والصبية الذين يمطرونهم بشتى ألوان الاستهزاء والسخرية؛ حتى إذا ما وصل موكبه "الحميري المقلوب غير الميهب" إلى غايته، وترجل ونزل على أرض قريته أو محلته؛ شعر أنه والعدم سواء، وأن باطن الأرض بات خير له من ظاهرها، وألا مكان له بين الأحياء. ومن حكمة الخالق سبحانه تعالى أن حذر المؤمنين ونهاهم عن السخرية من الآخرين قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون"(الحجرات:11). تشغيل أدوات التسميم الإعلامي على النحو الذي نراه في كثير من بلداننا العربية والإسلامية أمر لا يقره شرع ولا قانون، ولا يقبله ذو حسن أو ذوق سليم، وهو محض تقليد أعمى لما في بلاد فقدت الإحساس بالإنسانية رغم كثرة تشدقها بها. وهو عمل لا يتم إلا بأيدي خبيثة تساعد في التحطيم المعنوي لجميع مكونات أمتنا، المؤيدين من أبنائها والمعارضين. الحكام والمحكومين. والناكرين لغيرهم والمنكورين. المستأصِلين والمستأصَلون سواء بسواء. فعندما يصل أبناء الأمة إلى هذه الحالة يكون التسميم الإعلامي هو أشد أسلحة الصراع فتكاً بالواجدان العام، وباللحمة الوطنية، وبالوعي الجمعي. يوفر التسميم الإعلامي الداخلي الجهد والوقت والمال على وسائل التسميم الإعلامي المعادي الخارجي، بل وينهض هذا الإعلام المعادي ليمد "وسائل التسميم الإعلامي" الداخلي بكل ما تحتاج إليه من خبرات، وأجهزة اتصال متطورة، وأموال كثيرة، ولا يبخل عليها بالإشادة والدعم المعنوي و الإقرار لها بما يسمونه"الريادة". وعندما يصل مجتمع إلى هكذا حال يكون من الصعب جداً إصلاح ما أفسده "التسميم الإعلامي" في وقت قصير، ويعسر ترميم ما خربه، يتعذر تطهير ما أعطبه من الوعي الفردي والجماعي لأبناء الأمة. وفي اللحظة التي يفيق فيها الوعي العام، سيجد أن الطغاة والسمَّاويون من الإعلاميين الذي عملوا في خدمتهم قد ذهبوا أو ذهب أغلبهم إلى مزايل التاريخ، وساعتها سيعض الذين أفاقوا على أصابع الندم ولات ساعة مندم. ولكل ما سبق أرى أن التسميم الإعلامي يتعين تصنيفه ضمن جرائم الخيانة العظمى ضد الذات الوطنية، وأن توضع مادة في قانون العقوبات تنص على معاقبة من يثبت ارتكابه لهذه الجريمة الشنعاء.