بدأ المُقْرِضون والمانحون (بالتحديد البنك الدولى والإدارة الأمريكية) يتكالبون على مصر بدعوى رغبتهم فى مساعدتها بعد الثورة، لإعادة الحياة فى عروق الإقتصاد من جديد.. وتدعيم مسيرتها الديمقراطية.. والحقيقة أن هذه كلها مزاعم وأكاذيب تخفى وراءها مخططات ومصالح أجنبية لا علاقة لها بمصالح مصر الحقيقية.. وما كانت القروض البنْكدوليّة، ولا المنح الأمريكية، فى أى يوم ولا فى أي مكان إلا فخاخا لإيقاع الفرائس المأزومة .. وليس فى سجل البنك الدولي من يوم إنشائه إلا الآن قصة تنمية واحدة ناجحة فى العالم الثالث كله...! فقد كانت مشرعاته كلها فاشلة بلا استثناء.. وقد تسببت فى كوارث ومجاعات، وتراجع رهيب فى كل مجالات الحياة الإقتصادية والسياسية والاجتماعية، فى البلاد التى نفّذت نصائحه وشروطه بحذافيرها.. وقد كتبت فى هذا دراسة موثّقة نُشرت فى سلسلة مقالات بمجلّة المختار الإسلامي فى سنة 2003 إبتداء من شهر رمضان سنة 1425 هجرية (العدد رقم265 وما بعده) لمن أرٍاد أن يعرف التفاصيل.. ولم ينج من هذا المصير المأساوي إلا الدول التى عارضت نصائح البنك ولم تخضع لشروطه ورفضت قروضه، وعلى رأس هذه الدول الناجية كانت ماليزيا.. و اسألوا فى هذا مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق، الذى سيحضر إلى مؤتمر اقتصادي بمصر هذا الأسبوع .. وقد حضر الرجل قبل ذلك إلى مصر فى مؤتمر بمكتبة الإسكندرية فى5سبتمبر سنة 2004 وشرح تجربته العبقرية فى نهضة ماليزيا، وكيفية خروجها من أزمة مالية أعمق وأخطرمن الأزمة التى تمر بها مصر الآن.. ولا زلت أذكر أنه قدّم لمبارك نصيحته الشخصية ألا يعتمد ولا يخضع لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين.. ولم يكن يتصور أن علة النظام آنذك لم تكن فى قلة المعرفة، بل فى انعدام الضمير الوطني، لدى السلطة الحاكمة.. ولم يكن يتصور أن تكون من الفساد إلى هذا الحد الذى تبيّن له فيما بعد.. ولكن الآن.. و بعد الثورة.. فلعل مصر تكون أقدر على استيعاب التجربة الماليزية الناجحة، وتستفيد من رائدها العملاق مهاتير محمد. أقول: هناك بالتأكيد وسائل أخرى كثيرة للتنمية وإعادة بناء الإقتصاد المصري على أسس صحيحة ومتينة، بعيدا عن غواية القروض البنكية والمنح الأمريكية المسمومة.. فقد كانت توجّهات البنك الدولي وشروطه وكانت المساعدات الأمريكية يشكلان المستنقع العفن الذى سقط فيه النظام المصري السابق، وطفت على سطحه طبقة: استأثرت بالسلطة والثروة معا، وابتلعت القروض والمساعدات الأجنبية ونهبت مصر.. بينما تُرِكَتْ جماهير الشعب المصري تغوص فى أعماقه لتعانى الفقر والجوع والمهانة.. ويُخيّل إليّ أن هناك كثيرا من المسئولين -حتى الآن- لم يدركوا إدراكا كافيا.. وجود علاقة جدلية [سببية] بين ظاهرتى الفقرالمدقع والغنى الفاحش.. وأنها هى نفسها علاقة الناهب بالمنهوب.. اللص بالضحية المسروق .. علاقة الغنيّ الجشع بالفقير المطحون .. وأن هذه الجدلية تنطبق أيضا على شريحة طفلية من الطبقة العليا تتقاضى مرتبات هى أشبه بالرشاوى (تقدر بالآلاف والملايين)، فى علاقتها بالغالبية العظمى من العاملين، الذين فشلت حكومتهم حتى الآن أن ترفع الحد الأدنى لأجورهم إلى 1200جنيها فى الشهر.. وتجرى أمامنا الآن محاكمات عديدة لأركان النظام السابق الذين نهبوا الثروة وسرقوا المال العام.. ورغم أن هذه المحاكمات أصبحت جزءا من الحديث اليومي للناس والشغل الشاغل للكُتاّب والصحفيين.. ولكننا مع ذلك قليلا ما نتذكر أو نلتفت إلى إن هذا النهب العام الذى جرى على أوسع نطاق فى مصر، خلال الثلاثين سنة الماضية، هو السبب المباشر للفقر والمعاناة والمشكلات المالية والاقتصادية والاجتماعية التى تمر بها مصر الآن.. وما كانت الثورة إلا حدثا طارئا ترتبت عليه بعض الخسائر وتعطيل الأعمال، ولكنها خسائر لا تساوى شيئا أمام طوفان الفساد المالي، والنهب الشامل، وتجريف الثروة المصرية، وتحويلها إلى خارج مصر بطريقة إجرامية منظمة على مدار عقود.... وأريد أن أخلص من هذا الكلام إلى أن الذين ساعدوا هذه الطبقات الطفيلية على نهب مصر والسيطرة عليها وأخضعوا شعبها لنظام دكتاتوري رهيب، سواء من الأمريكيين أو من البنك الدولي، هم أنفسهم الذين يتقدمون اليوم بالقروض والمساعدات المالية والمنح.. بدعوى مساعدة مصر على الخروج من ازمتها المالية ومساعدة الشعب المصري على بناء الديمقراطة.. كذب مكشوف تفضحه بعض صحفهم: فهذه صحيفة الجارديان البريطانية تشير إلي ذلك حيث تقول: إنه في الوقت الذي يسعى العرب فيه -من خلال الثورات والانتفاضات- إلى الحرية والديمقراطية، يقوم الغرب بتكبيل هذه الدول خاصة مصر وتونس بنفس النظام الاقتصادي القديم الذي كان سببا في اندلاع المظاهرات والإطاحة بالأنظمة القديمة.. وفى إشارة للمساعدات الأمريكية تنبّه الجارديان إلى أن جزءًا من مساعداتها مشرط بتقديمه مباشرة إلى جماعات المجتمع المدني، وبطبيعة الحال ستختار أمريكا من يخدمون مصالحها على حساب المجتمع ومصالح الجماهير ..! ويلقى الأستاذ فهمى هويدى فى مقاله " المُهَرْوِلون نحو المعونات" ضوءًا كاشفا على حقيقة المنح المالية التى تقدمها أمريكا إلى ماتسميه المجتمعات المدنية [لتدعيم الديمقراطية]، ويرصد فى ذلك 600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول على هذه المنح، ويقدّرها بحوالى خمسين مليون جنيه مصرى [شهريا..] ثم يرفع سؤلا مهما: ماهى هذه المنظمات..؟ وما هى الأنشطة الديمقراطية التى تقوم بها..؟؟، وما هى الأهداف السياسية أو التنموية التى تسعى إلى تحقيقها..؟! يتشكك فهمى هويدى -ولا يؤكد- فى وجود علاقة بين تلك الأموال وبين تكاثر وتعدد الائتلافات التى نسبت نفسها إلى الثورة، ثم ظهور الانقسامات والأجنحة بين بعض تلك الائتلافات..! ولكنه من ناحية أخرى يؤكد لنا عدة أمور أخري: (1) أن المال الأمريكى له إسهامه فى تمويل بعض الحملات التى شغلت الرأى العام خلال الأشهر التى خلت.. وإن هذا المال غطّى مثلا نفقات مؤتمر عقد فى أحد الفنادق الكبرى لمعارضة التعديلات الدستورية.. (2) أن بعض المنظمات التى تلقت مساعدات أمريكية بعد ثورة 25 يناير، كانت تتلقى دعما أمريكيا مماثلا أثناء حكم الرئيس السابق، وكان لها دورها فى مساندة نظامه وتسويغ ممارسات أجهزته طول الوقت.. (3) لقد اختارت الإدارة الأمريكية سفيرة جديدة فى مصر لها خبرة بمجتمعات الاضطرابات فى أمريكا اللاتينية...! وأضيف إلى كلام فهمى هويدى: أنه من الطبيعي والمنطقي أن مهمة تنسيق هذه الأنشطة المضادة للثورة، وللمسيرة الديمقراطية التى اختارها الشعب، تحتاج إلى سفيرة أمريكية على هذا المستوى العالى من الخبرة.. كما تحتاج إلى شخصية فى داخل السلطة، ذات نفوذ وصوت عالٍ ونشاط حركيّ وعلاقات شخصية واسعة بنوعيات معينة من الناس (أقصد من فئة الانتهازيين الذين يطلقون على أنفسهم أسماء: العلمانيين واليساريين واللبراليين...). يقول أنه قدم استقاته ولكن المجلس رفضها.. ولذلك من حقنا أن نندهش وأن نسأل هذه الأسئلة التى تحيّر الكثيرين: لماذا رفض المجلس قبول استقالة يحي الجمل..؟؟ وهل يعلم المجلس بهذا العبث الأمريكي بالجبهة الداخلية..؟؟ وهل يعرف من يتلقّون هذه الأموال وماذا يعملون بها؟؟ وهل يصح أن تُترك الأصابع الأمريكية وعملاؤها للعبث فى مصير هذا الشعب ومستقبله ...؟؟! وهل هناك علاقة بين هذا وبين المظاهرات التى بدأت تظهر فى حيّ المهنسين لتأييد مبارك والدعوة لوقف محاكمته..؟! وهل يمكن أن يضاف إلى هذا ما قيل عن رسالة مهرّبة إلى شخصية قيادية فى الحكومة الُعمانية، كتبها جمال وعلاء مبارك يستنهضانه لنجدتهم وكشف ما يصفانه بالتزييف الإعلامي ضد أسرتهم البريئة [تصوّر البجاحة..!] ويصفون محاكمتهم بأنها مجرد إرضاء للغوغاء ومظاهرات الغوغاء.. وطبعا الغوغاء هم الشعب المصري..؟؟! ألا يُعْتبر تسريب هذه الرسالة من السجن فى حد ذاته، وفى هذا الوصف المهين للشعب المصرى جريمتان جديدتان يجب التحقيق فيهما، إلى جانب الجرائم الأخرى لأسرة الرئيس المخلوع...؟ وأخيرا: إذا كان هذا كله صحيحا.. فلماذا لا تُتخذ الإجراءات القانونية لمحاكمة الذين يتلقّون هذه الأموال لتنفيذ مخططات أمريكية.. بإثارة الاضطراب والتفكّك فى ثورة هذا الشعب، والقضاء على وحدته وعلى منجزاته الديمقراطية...؟! أنا لا أشكك فى نوايا أحد، ولكننى -مع أناس مخلصين كثيرين من أبناء هذا الشعب- يريدون أن يفهموا بصراحة وشفافية وبدون إخفاء للحقائق، وبدون أكاذيب كالتى اعتدنا عليها من النظام السابق..! فهل يتطوع مسئول فى السلطة الحاكمة للكشف عن هذه الحقائق.. وإذا استدعى الأمر فلْيطْلب من الشعب المساعدة والدعم، لمواجهة القوى الضاغطة، التى تريد إعادة مصر مرة أخرى إلى حظيرة الاستعباد والتبعية..؟؟! إنه إن يفعل ذلك -وهو الطريق الوحيد لتصحيح الأوضاع المقلوبة- فسيجد عشرات الملايين من جماهير هذا الشعب تهبّ للدعم والمساندة.. فى كل أرجاء مصر.. وسيرى كيف تعود الثعابين -التى أطلّت برأسها- مذعورة إلى جحورها...! [email protected]