يوم الثلاثاء الماضي كنت في مكتب المدعي العسكري مع الزميل الأستاذ محمود سلطان ، لإتمام أقوالنا في ملف قضية متعلقة بوزارة الزراعة ، كنا قد نشرنا عنها واهتم بها المجلس العسكري ، وقدمنا لجهة التحقيق الوثائق الكاملة التي بحوزتنا بعضها بتوقيع الوزير والتي تبين صحة ودقة كل كلمة نشرناها ، والحقيقة أن وزارة الزراعة تحولت عبر سنوات طويلة إلى مستنقع فساد وعفن رهيب ومتشعب ، وبلا مبالغة أصابنا الإحباط واليأس من كثرة ما يصلنا من ملفات الفساد هناك ونعجز عن ملاحقتها ، وهي تحتاج وحدها ثورة جديدة ، تعيد هيكلتها ، وتبعد جميع القيادات التي ارتبطت بالنظام السابق ورموزه ، وفي مقدمتهم بطبيعة الحال وزير الزراعة الحالي أيمن فريد أبو حديد ، أحد أبرز تلاميذ يوسف والي ، وأحد أقطاب اللجان الثلاثية "المصرية الإسرائيلية الأمريكية" . وفي أعقاب إدلائنا بشهادتنا ، أتيح لنا اللقاء مع اللواء عادل مرسي ، رئيس هيئة القضاء العسكري لفترة من الوقت ، أعاد فيه التأكيد على أن النيابة العسكرية تحرص على التعامل بشكل إنساني ولائق مع الإعلاميين بشكل خاص ، ومع عموم المواطنين من أصحاب الشكاوى أو البلاغات بشكل عام ، وأن الهيئة عندما تستدعي أحدا فإنه من باب استجلاء الحقيقة ، خاصة عندما يعلن عن اتهامات عنيفة أو حساسة ويقول صاحبها أنه يملك مستنداتها ووثائقها ، فمن الطبيعي أن نطالبه بتلك الوثائق ، وأكد أن عددا من الأخبار والتقارير و"المانشيتات" التي نشرتها بعض الصحف مؤخرا وفيها تعرض للقوات المسلحة وبعض هيئاتها وتدعي امتلاكها وثائق ، اتضح أنها كلام مرسل حمل اتهامات بلا أي دليل ولا مستند ، وبعضهم طلب إعطاءه مهلة للحصول على الوثائق ولم يصل شيء ، كان الرجل شديد الوقار يبدي حزنا وأسفا من عمليات التحرش المتتالية بالقوات المسلحة في لحظة حرجة بالنسبة للوطن ، وتحمل فيها القوات المسلحة أعباء تاريخية ضخمة . تحدث باحترام كبير عن القضاء المدني بجميع قطاعاته ، وقال أننا في المحاكم العسكرية نعتمد بشكل أساس على مرجعية أحكام محكمة النقض ، ولكنه أبدى استغرابه الشديد من خروج بعض السادة القضاة أمام الإعلام ليكيلوا الاتهامات للقضاء العسكري بدون أي مبرر أو معنى ، مؤكدا أن القضاء العسكري حمل مسؤولية شديدة الخطورة عندما تفككت معظم مؤسسات الدولة في أيام الثورة وأعقابها ، وعندما انفلتت أعمال العنف والبلطجة وقطع الطريق والاغتصاب والقتل والسرقة بالإكراه ووصلت الحالة الأمنية إلى مستويات خطرة جدا ، نجح القضاء العسكري في لجم هذه الموجة العاتية والسيطرة عليها بما أتاحه القانون من أحكام رادعة وإجراءات سريعة ، لأن البلد لم تكن تحتمل أي استرخاء ، قال أننا كنا نعمل هنا من السابعة صباحا تقريبا وحتى ما بعد منتصف الليل ، لا نعرف بيوتنا ولا أولادنا ولا أسرنا إلا عبر الهاتف ، ولم نحصل على إجازة يوم واحد منذ بداية الثورة وحتى اليوم ، وقال أننا لا نقول ذلك لنبحث عن تقدير أو استعطاف أحد ، لأنها مسؤوليتنا تجاه الوطن ، فهي واجب نؤديه بكل إخلاص وتفاني ، ولكنا كنا نتمنى من "الباقين" أن يكونوا على نفس القدر من المسؤولية تجاه الوطن وأحداثه الجسام بدلا من التفرغ لمحاولة النيل من المؤسسات الوطنية التي تعمل في أقسى الظروف من أجل إنقاذ البلد وحماية أمنه وأمانه . اللواء عادل مرسي قال لنا أن القضاء العسكري كانت تفد عليه يوميا مئات القضايا ، بلا مبالغة ، الآن تقلصت الأمور وانخفضت مستويات العنف والجريمة بصورة حادة بفعل الأحكام الرادعة لأعمال البلطجة ، وتصل الآن أحيانا إلى عشر قضايا أو خمسة عشر قضية في اليوم ، وقال أن الهيئة أصدرت أحكاما في ما يقرب من عشرة آلاف متهم ، ألفان منهم انتهى الحكم للبراءة ، وخمسة آلاف حكم بالإدانة مع وقف التنفيذ ، وثلاثة آلاف حكم إدانة مختلفة الدرجة حسب خطورة الجريمة ، وقال أن الناس لا تتصور حجم العبء الذي حملناه ، لقد كانت تأتينا بلاغات وشكاوى تتعلق حتى بمشكلات الجيرة بين السكان أو حتى الخلاف على أجرة بواب العمارة . بكل تأكيد ، فإن ما تحمله القضاء العسكري وهيئاته في تلك الأشهر الخطرة كان جزءا من المسؤولية الوطنية الكبيرة التي حملتها القوات المسلحة المصرية باقتدار وكفاءة ، أبهرت العالم كله كما رأينا جميعا وقرأنا ، خاصة من القدرة على السيطرة على الانفلات بأقل مستوى من العنف ، بل بمستوى منعدم تقريبا من العنف ، والحكمة وطول البال في التعامل مع ملفات شائكة وشديدة السخونة والحساسية ، مع إصرار كامل ومعلن ومتكرر على تمهيد البلاد للعودة إلى الحكم المدني بأسرع وقت ، وبالتزام كامل بالبرنامج السياسي الوطني الذي اختاره الشعب المصري في الاستفتاء الأخير ، وهذا في جوهر الأمر هو ما سبب موجة التحرش البغيض من قبل بعض "المتآمرين" والخائفين من الديمقراطية بالجيش وهيئاته ، بما فيها القضاء العسكري ، ومحاولتهم استفزازه وإهانته لجره إلى الفتنة . لن تنسى مصر لهؤلاء الرجال دورهم الوطني في العبور بمصر إلى الديمقراطية ، كما عبروا بها من قبل من الهزيمة إلى النصر في حرب رمضان ، وإذا كنا حريصين على عودة الجيش إلى ثكناته ، وعودة الحياة الطبيعية إلى الوطن ، وتفعيل دور القضاء المدني من جديد ، وهو مطلب حيوي ، فعلينا جميعا التضامن من أجل سرعة إنجاز البرنامج السياسي الواضح ، بالانتخابات البرلمانية الحرة والنزيهة ، ثم إنجاز دستور جديد يليق بمصر وثورتها وطموح جميع تياراتها الوطنية بلا استثناء ، ثم انتخاب رئيس جديد لمصر يعرف أنه شريك في حكم مصر ومحكوم بدستورها وقانونها وإرادة شعبها ، وليس فرعونا ولا إلها ، وهذه الحزمة من الإجراءات هي التي ستطلق كل شرايين الخير في مصر وطاقات الإبداع فيها في كل المجالات لتنتقل بها إلى أفق جديد أكثر استنارة ورشدا وديمقراطية ورفاها . [email protected]