عاد الصديق الألماني - الذي يعمل مراسلاً صحفياً في القاهرة - الى برلين، ليقضي اجارة قصيرة بين الأهل والأصدقاء، واتصل بي كعادته مشكوراً، حتى نلتقي لنتحاور، ونتبادل الرؤى، في البلدين، مصر والمانيا على السواء، حيث اعتقد صديقي دوماً ان عملي في المانيا يتيح لي فرصة الاطلاع بشكل أقرب منه على مجريات الاحداث هنا ، وهو ما اعتقدته فيه ايضاً فيما يخص القاهرة، مع فارق بسيط مفاده ان رؤيته لما يدور في القاهرة قد تستند على حقائق ومعلومات أوفر من تلك التي اجنيها من عملي هنا في المانيا، لسبب لا يتعلق فقط بحجم صداقاته مع العاملين في العمل العام في القاهرة ، بل ايضاً لكون الأصدقاء الألمان هنا يتسمون في احياناً كثيرة بالصمت، على عكس ما يحدث مع اصدقائه في القاهرة سألت صديقي عن رؤيته فيما يحدث - وما قد يحدث - في القاهرة، ، حال صدقت " معلومات " الاستاذ محمد حسنين هيكل، وسألته ايضاً عن رؤيته لأوضاع الناس والبلاد، والفساد ، وتوقعاته لما ستأتي به الأيام المقبلة، وتحدث الصديق كثيراً، وخاصة بعد ان كان قد شبع من حديثي عما يجري في المانيا قال، ان ما يجري في مصر ستسجله كتب التاريخ - أو بعضاً منه على الأقل - على انه كان وما يزال ظاهرة مصرية خاصة ، قد تنتشر في مناطق أخرى من العالم في وقت لاحق، لكنه الآن أمر تتميز به مصر وحدها دون غيرها..ومن ذلك البعض مثلاً، التداخل - المفرط احياناً - بين القريبين من دائرة صناعة القرار في مصر، وغيرهم من العاملين في مجال العمل العام كالسياسيين والصحفيين وغيرهم، والى حد ان سرد - وتسريب - المعلومات احياناً يكون مغلفاً يرداء سميك من التفاخر بالاطلاع على حقيقة الأمور، وهذا - من وجهة نظرة - ينسحب بالطبع على ما ذكره الاستاذ هيكل، فسألته ان كان يصدق ما نقلته الصحف عن هيكل، فرد سريعاً بالموافقة، مشيراً الى ان هيكل صادق تماماً في كل ما كتبه ورواه بشأن التوريث، بل ان ما رواه هيكل كان للكثير من المراسلين الصحفيين الأجانب في القاهرة ليس أمراً جديداً، والى حد ان بعض هؤلاء تصور في بادئ الأمر ان الحكومة المصرية قد تكون وراء تسريب تلك " الأنباء " للصحفيين الأجانب، لقياس رد فعل الاعلام الغربي حول ذلك، لكن الأمر - بعد رواية هيكل - ورد فعل بعض كتبة الحكومة في الصحف القومية - فُهم على نحو مختلف. فمن ناحية لا ينكر صديقي ان عائلة الرئيس مبارك - باعتبارهم بشرا- تطمح وتتمنى لجمال مبارك تسلم الرئاسة بالطبع، والا لجاء " التغيير الدستوري " على نحو أفضل مما جاء عليه قبل الانتخابات الرئاسية الماضية، هذا علاوة على ان كل التغيرات التي حدثت - وستحدث - داخل الحزب الوطني الديموقراطي تدلل على التصميم الرئاسي على جمع كل الخيوط - ولو على مراحل - في يد جمال مبارك وحده، اضافة الى ان اعادة قراءة الطريقة التي تسير بها الأمور منذ بدء مرحلة عاطف عبيد - وتكريس سياسة بيع القطاع العام على مراحل - وحلول رجال الاعمال محل التكنوقراط - مروراً بمرحلة نظيف تؤكد ان جمال مبارك - باعتباره حلقة الوصل بين المال والسياسة - ستؤول اليه مقاليد الأمور - ليس بعد ابيه - بل في حياته، مثلما قال هيكل، لانه - وكما قال صديقي - ليس هناك ضمانات من ان كل اجهزة السلطة المؤثرة ، والتي تقف اليوم خلف مبارك الأب والإبن الآن ستقف خلف جمال في حالة غياب ابيه لأي سبب من الأسباب. استطرد صديقي قائلاً - ان الكثيرين من الصحفيين والمراسلين الأجانب في مصر اعتقدوا لفترة طويلة - بسبب المعلومات التي تواردت بعد زيارات جمال مبارك العلنية والسرية للغرب - ان السناريو المطروح وغير المرفوض في الغرب، يسير في اتجاه التغيير الدستوري الكامل، والذي يحول النظام في مصر، الى نظام برلماني - وخاصة بعد انتخابات يحوز فيها الحزب الوطني الاغلبية كالعادة - وهو ما يعني ان رئيس الوزراء سيحل في المرتبة الأولى، ويظل منصب رئيس الجمهورية قائماً كمنصب - غير سياسي - كما هو الحال في الكثير من دول العالم ومنها المانيا، وفي تلك الحالة فلن يعارض أحد في الغرب اذا ما رشح الحزب الوطني جمال مبارك لرئاسة الوزارء، على اعتبار ان ما حدث - يمكن بكثير من التفاؤل - تفسيره على انه تطور ديموقراطي ، وخاصة اذا ما تضمن تنازل مبارك الأب عن منصب رئيس الجمهورية برضاه ، وحلول شخص آخر محله. وهو سيناريو يؤكد صحة نفي مبارك لقضية التوريث، ويُرضي كثير من القوى السياسية المصرية - المعارضة ومن بينها الاخوان المسملون - على اعتبار ان من أهم مزايا ذلك هو التغيير الدستوري الذي طالما طالبوا به منذ زمن بعيد، ويؤكد - ولو على المدى المتوسط والبعيد - أحد أهم المبادئ الديموقراطية الخاصة بتداول السلطة. " ولو بعد جمال " اعتقد الكثيرون ان ذلك السيناريو هو الأقرب لما سيحدث في مصر في المدى المنظور - على اعتبار انه السيناريو الواقعي الوحيد القابل للتحقيق ويتضمن ارضاء جميع الأطراف في السلطة والمعارضة على السواء - لكن ما آلت اليه الأوضاع، داخل الحكومة والحزب - قبل وخلال وبعد زيارة الرئيس مبارك للعلاج في ميونيخ، بين للرئيس مبارك ان ضمانات موافقة الغرب على ذلك السيناريو ليست اكيدة، اذا لم تنطوي بشكل أو بآخر على ضمانات سياسية مصرية للولايات المتحدة والغرب ليس فقط فيما يخص الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وليس فقط فيما يخص دارفور في السودان - بل ايضا لما تطلبه الولاياتالمتحدة - كثمن للموافقة على ذلك السيناريو - في العراق....وفي حين بدت موافقة مبارك الأبن أمر مفروغ منه بهذا الخصوص - لم يكن مبارك الأب واثقاً من قدرته - مصرياً وعربياً - على دفع ذلك الثمن .ولم يستطرد صديقي في تلك النقطة أكثر من ذلك. اما ما قاله عن سطوة الفساد في مصر..واطرافه وتشعباته، وانعدام امكانية محاصرته..فهذا موضوع المقال القادم.