صديق لي يعيش في أمريكا، وتعيش مصر في داخله، استقرت حياته هناك منذ أكثر من عشرين عاماً، في كل مكالمة أو إجازة نلتقي فيها «يفضفض» صديقي بعذابه الدائم وحيرته وصراعه بين أن يأتي مصر ويعود إلي أحضانها - علي حد تعبيره الرومانسي وحيرته من أن يترك ابنه الأمريكي المصري الذي ولد وعاش وتعلم وأصبحت حياته مرتبطة بوطنه الأمريكي، أما مصر فهي بالنسبة له بلد «دادي والفاميلي» و«الفراعنة » و«النيل» وما أجمله صديقي الرائع الذي يحدثني تليفونياً ليزف إلي خبر أن ابنه عمل«presentation» عن مصر الأسبوع الماضي ونالت إعجاب زملائه والمعلم. لذلك كان الاختيارأمامه دائماً صعباً وقاسياً... مصر ولا أمريكا حيث ابني.. والاختيار بديهي.. كانت كفة الابن بالطبع هي الراجحة.. كان صديقي يلهم نفسه الصبر والسلوان فيقنع نفسه بالحل الآتي: سأبقي في أمريكا حتي يكمل ابني عامه الثامن عشر..وسأعود إلي مصر ويأتي ابني لزيارتي وأذهب لزيارته في أمريكا.!!! سنوات طويلة ولم يعتد صديقي الغربة ولم يستبدل مصر بأمريكا ولم يشعر بالرضا إلا وهو في مصر. والحقيقة أنني وفي مرات عديدة كنت أؤيد هذه الروح التي أشعر بها تماماً ثم وجدت نفسي متورطة في الحديث معه وإقناعه بأن يظل هناك تحت مبرر هو أن البداية في مصر من حيث انتهي في أمريكا لن تكون سهلة أو منطقية، وكنت أحاول أن أكون مهذبة ومتعاطفة معه بقدر كبير فكنت أزين حديثي معه وأقول له إنه يري مصر بعين السائح.. كانت لدي شواهدي التي تؤكد أن مصر التي تجري في دمه ليست هي مصر التي سيقوي علي العيش فيها، لأنه ببساطة فقد لياقته وقدرته علي التكيف مع تفاصيل الحياة اليومية.. كنت علي يقين أن صديقي لن يستطيع أن يستخرج رخصة قيادة مثلاً. كان يأتي مصر وفي كل زيارة خاطفة تمتلئ روحه وتتشبع بالنوستاجيا والحنين والعائلة والأصدقاء والشوارع والحواري وسائقي التاكسي الذين أثاروا حسه الفني والسينمائي فقرر أن يخرج عنهم فيلماً تسجيلياً يعكس حال مصر والمصريين وبالفعل تملكته الفكرة وسيطرت عليه التصورات والرؤية الفنية، فاصطحب الكاميرا معه وقد قضي أجازته كلها تقريباً في تاكسيات القاهرة «الأبيض والأسود»، وقد عزم علي أن يكمل الفيلم عن تاكسيات محافظات مصر كلها.وكالعادة تنتهي الإجازة سريعاً ويتكرر المشهد «إياه»... يعطيني صديقي الشرائط والمادة الخام التي قام بتصويرها ويقول لي: «احتفظي بها حتي الإجازة القادمة، سأكمل المشروع»... وفي العام التالي يأتي صديقي في إجازته ويكون قد نسي مشروع الفيلم السابق أو بمعني أدق تكون مصر قد صدمته بفكرة جديدة تستحق الرصد والتسجيل وتثير خياله الفني وحسه الإبداعي الصادق. ينبهر مثلاً بما تفعله صديقتي في عملها وهو مساعدة المرضي الفقراء في تلقي العلاج وكيف أنها تقابلهم وتتابع حالاتهم بنفسها وكيف أنها كرست جزءاً كبيراً من حياتها ليصبح هذا هو مشروعها المهني، يكاد لا يصدق ما يراه ويقرر أن تكون صديقتي هي موضوع فيلمه التسجيلي لهذا العام، وبحماسه يبدأ التصوير ولأن الوقت دائماً لا يمنحه فرصة إتمام أحلامه، ينتهي الموقف والمشهد بتسليمي الشرائط التي تم تصويرها للاحتفاظ بها للعام القادم. تنتهي إجازته دائماً بسرعة خاطفة يكون مشتتاً فيها بين أهله وأصدقائه وأحبائه ومعارفه وزياراته ورغبته في اكتشاف ما جد علي مصر المحروسة أجندة زيارته السنوية لا يتمكن من تنظيمها أبداً أو إتمامها كما حلم بها كثيراً وهو في امريكا. يطير صديقي مصاحباً لدموعه الحبيسة أحياناً والمتدفقة أحياناً أكثرعائداً إلي أمريكا، ويواصل اتصالاته ورسائله فور وصوله ومتابعته لكل أخبارنا واستكمال كل الحواديت والمناقشات والاختلافات والمشاهدات والنميمة التي بدأناها في إجازته ولم نتمكن من استكمالها، ربما تكون هذه هي وسيلته الوحيدة ليشعر نفسه أنه مازال هنا... رغم أنه هناك بعيداً.. حلمه بمشروعات أفلامه التسجيلية ليست هي الموضوع، ولكن تاريخ أحلامه هي الموضوع الحقيقي... عندما كان صديقي يحلم بإتمام هذه المشروعات كان التاريخ يعود ربما لأكثر من سبع سنوات مضت تقريباً، وأصبحت كل مكالماته الدولية الطويلة حالة فزع وحزن وأسي حقيقي «علي إللي بيحصل في البلد»، وفي كل مرة أكرر فيها جملتي السخيفة التي قد يعتبرها البعض «لا انتماء»، حيث أقول له: يا عم... إنت هتضيع المكالمة وتصرف بالدولار في البكاء علي الأطلال... احمد ربنا إنك هناك. مرة يحدثني مفزوعاً عندما شاهد طوابير العيش ومواطنين يدهسون تحت الأقدام، ومرة يأتيني صوته منهاراً بسبب ما يحدث في الصعيد من قتل ودم بين المسلمين والمسيحيين، ومرة يكتب قصة قصيرة رثاء في الشاب الذي انتحر وألقي بنفسه من فوق كوبري قصر النيل، ومرة يطلب مني البحث عن رقم أهل الشاب خالد سعيد لأنه يريد الحديث إلي أمه ومواساتها.. دائماً صديقي لديه الكثير من المشاعر.. ولكن المشاعر عبر السنوات تتغير أو تتشكل بلون الظروف التي نعيشها... النوستالجيا تحولت إلي غضب، والحماس في الاقتراب من الناس تحول إلي حالة من الخوف من الاصطدام بالناس، فبدلاً من أن كان يقضي إجازته في الشوارع وتاكسيات المدينة والميكروباصات والحواري ومصر القديمة، أصبح يفضل اجتماع العائلة أو الأصدقاء في البيوت أو ركوب مركب في النيل.. ليكون بعيداً أو بمعني أدق - وعلي حسب تعبيره - يري الصورة عن بعد. تغيرت المشاعر... هي في النهاية مشاعر حب حقيقي وصادق، ولكن هناك حباً يخرج أجمل ما فينا من مشاعر، وهناك حب يدمر أحياناً ويخرج أسوأ ما فينا، ولكن النوع الثاني سرعان ما يتحول إلي غضب وفي أفضل الأحوال.. يتحول إلي «حب من بعيد لبعيد». صديقي قرر العام الماضي ألا يأتي وأرسل لأهله - دعوة زيارة - ليسافروا هم إليه. صديقي هذا كلما علم بسفر شخص ما يعرفه عن قرب أو حتي عن بعد إلي أمريكا، يحاول أن يجعل من بيته - بيت الأمة وبروح ابن البلد - يدعوه بصدق للإقامة معه أو توفير أي وسيلة لمساعدته. ألم أقل لكم إن المشاعر تتغير أو علي الأقل الصورة التي نعبر بها عن مشاعرنا لابد وأن تتغير ولا تخضع لقانون الثبات. الآن.. ومنذ سنوات قليلة.. لم يذكر صديقي أي شيء عن صراعه وحيرته: أرجع مصر ولا....؟! الإجابة محسومة الآن... وأعتقد أنها إجابة لا تخص صديقي وحده، لكنه شعور يخص مصريين كثيرين داخل وخارج حدودها الجغرافية.. إجابتهم.. وربما تكون إجابتنا هي: «البعد عنها.. ح يخلينا لسه قادرين نحبها»!!