استمر صديقي صامتاً منصتاً لما حكيته له في الجزء الأول من هذا المقال عن وقائع علاقة وزارة الأوقاف بالمساجد في القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي. ومضيت بدوري أخبره بأن: تحويل "ديوان عموم الأوقاف" في سنة 1913م إلى "وزارة" نزولا على رغبة الاحتلال البريطاني قد أثار جدلاً حاداً بين العلماء ورجال السياسة والصحافة في مصر. فقد توقع بعض علماء الشريعة آنذاك أن إنشاء "وزارة أوقاف" سيقضي بمرور الوقت على استقلالية الأوقاف ومن ثم سيقوض استقلالية المساجد والدعوة والدعاة؛ وأثبتت الأحداث صدق ما توقعوه ؛ برغم الاحتياطات التي أشرنا إليها في الأمر العالي بشأن المحافظة على تلك الاستقلالية. وطعن المعارضون أيضاً في قانونية "الأمر العالي" برمته. واحتجوا بأن الخديو عباس ليس له من السلطة الشرعية إلا ما أعطاه السلطان العثماني في فرمان توليته على مصر في سنة 1892م. ولم يكن تعيين وزير للأوقاف مما أعطاه للخديو في ذلك الفرمان. وإلى جانب هذا الجدل الذي شكك في الأساس الشرعي والقانوني لقرار إنشاء وزارة الأوقاف، كشف آخرون عن الدور الذي قام به الاحتلال الإنجليزي من خلال اللورد كتشنر المعتمد البريطاني في مصر تنفيذاً لاقتراح سلفه اللورد كرومر الذي كتب في تقريره عن عام 1905 ما نصه " واعتقادي أن الإصلاح الوحيد المرضي هو وضع هذا الديوان (الأوقاف) تحت إدارة ناظر(وزير) مسؤول يكون عضواً في مجلس النظار، وتتيسر مراقبة أعماله كما تُراقب سائر النظارات". هذا مع العلم بأن النظار، أو الوزراء، كانوا مجبورين على أن يكونوا تحت سيطرة المعتمد البريطاني في مصر. ولكن كرومر أخفق في تحقيق ما أراد، وفشل في تحقيقه خليفته اللورد جورست أيضاً، ولكن اللورد كتشنر نجح في أن يقنع الحكومة البريطانية بفكرة تحويل ديوان الأوقاف لوزارة، ومن ثم حصلت الحكومة البريطانية على موافقة حكومة الآستانة رغم أن الموضوع له علاقة بالدين. وأمور الدين كانت فقط من اختصاص السلطان العثماني دون غيره. ولكن حكومة الآستانة كانت آنذاك بيد الانقلابيين المتطرفين من جمعية الاتحاد والترقي. وكانوا أولئك الانقلابيون قد أطاحوا في سنة 1909م بالسلطان عبد الحميد الثاني، فلم يمانعوا في إجابة ما طلبه البريطانيون بشأن تحويل الديوان إلى وزارة للأوقاف. "الأضابير" التي اطلعنا عليها بشأن ملابسات تحويل ديوان الأوقاف في سنة 1913م كشفت لنا أيضاً عن أسرار مهمة ظلت طي الكتمان لأكثر من مائة عام. ومنها: أن اللورد كتشنر عرض مشروع التحويل على الخديو عباس وقال له إن "حكومة لندن" حزمت أمرها بشأنه. ولكن الخديو اعترض في البداية ورفض الفكرة من أساسها. وهو ما أغضب كتشنر وجعله يهدده بالقول "إذا كان الخديو لا يريد الموافقة فأنا أسلم العرش لابن عمه". إلى هذه الدرجة كانت سلطة الاحتلال مصرةً على تحويل الديوان إلى وزارة. والسر هو أن الاحتلال كان يريد تقويض أسس استقلال الدعوة الإسلامية واستتباع الدعاة من خلال السيطرة على ميزانية الأوقاف، ومن ثم يسهل توجيه الخطاب الدعوي بحسب ما تراه السلطة. أحمد شفيق باشاً(كان مديرا لديوان الأوقاف) يذكر في حولياته أن «المخاطبات دارت في موضوع تحويل الديوان لوزارة بضعة أيام بواسطة محمد سعيد باشا، وحسين رشدي باشا، وانتهى الأمر بسؤال الخديوي الصدارةَ – أي رئاسة الوزراء في الآستانة- بصفة رسمية فوافقت الآستانة على المشروع. وبذلك تمت المسألة كطلب كتشنر». وكانت الحجة الأساسية هي أن "الأمر كذلك في الآستانة"؛ أي أن للأوقاف وزارة ضمن الحكومة العثمانية، وليس ديواناً مستقلاً لها كما كان في مصر. ورغم أن موافقة الآستانة كانت حاسمة؛ إلا أن بعض الصحف الوطنية المصرية مثل جريدة "المؤيد" للشيخ على يوسف فضحت الفرق بين وزارات الآستانة، ووزارات مصر؛ وكشفت أن وزارات الآستانة مستقلة تحت سلطة الخليفة، وأن شيخ الإسلام هو العضو الأول في مجلس الوزراء في الآستانة، بينما الوزارة المصرية تحت مراقبة دولة أجنبية محتلة، وفي قبضة اللورد كتشنر، وهذا لا يجوز شرعاً. واحتال كتشنر لإبطال كل تلك الحجج؛ إذ بادر إلى الإعلان عن أن وزارة الأوقاف الجديدة التي ستنشأ لن يكون لها "مستشار إنجليزي"؛ بل تكون مستقلة في عملها، ويكون لها مجلس أعلى من أعضاء مسلمين، وأن هذا المجلس سيقيد تصرفات "وزير الأوقاف" نفسه!، وأن الحال لن يختلف كثيراً في "وزارة الأوقاف" الجديدة عما كان عليه في "ديوان الأوقاف" القديم!. التنقيب في الأضابير كشف لنا سراً آخر، وهو أن حيلة كتشنر قد انطلت على كثيرين من المعارضين بمن فيهم مشايخ وعلماء أزهريون. فاستسلموا للأمر الواقع، وبات كل أملهم هو أن يتم تأخير صدور قرار تحويل ديوان الأوقاف إلى وزارة لحين انعقاد الجمعية التشريعية في مطلع سنة 1914م؛ فتصدق عليه، وتقرره فتطمئن قلوب الأمة؛ باعتبار أن الجمعية التشريعية هي برلمان البلاد وسلطتها التشريعية. واكتشفنا أيضاً أن سعد زغلول باشاً اقترح في حينه "أن يكون رأي الجمعية التشريعية قطعياً نافذاً فيما يعرض عليها من ميزانية وزارة الأوقاف، وما يوضع لها من اللوائح والنظام". واستهدف سعد باشا من اقتراحه هذا أن تظل أموال الأوقاف "مستقلة" برعاية "الجمعية التشريعية"، وأن تكون بعيدة عن تدخلات أي سلطة أخرى مهما كانت سطوتها؛ بما في ذلك سلطة المعتمد البريطاني ممثل سلطة الاحتلال. والحاصل أنه ما كان بإمكان أحد أن يثني إرادة الاحتلال البريطاني عن تحويل الديوان إلى وزارة للأوقاف وخاصة بعد موافقة الآستانة صاحبة الولاية الشرعية على مصر آنذاك. ولم يستطع الخديو عباس الصمود أمام تلك الإرادة، وخاصة بعد أن اتهمته الصحف الموالية للإنجليز مثل "المقطم" و"المقتطف"، بأنه "يستخدم أموال الأوقاف في تمويل الأعمال التخريبية ضد السلطات البريطانية في مصر!!"(يقصدون أعمال المقاومة الوطنية ضد الاحتلال). كما كانت سلطات الاحتلال البريطاني في الهند تسعى في الوقت عينه للسيطرة على الأوقاف هناك، ونجحت فعلا في العام 1913م في إعادة تنظيم ما يعرف هناك باسم "وقف أوده"، وقطعت صلاته التي كانت ممتدة في بلاد المسلمين من الهند إلى العراق. ولهذا كله، سعى القادة المصريون الوطنيون والعلماء الغيورون من أجل ضمان "استقلالية" الأوقاف وعدم دمجها في ذمة الحكومة وميزانيتها عندما يصدر أمر تحويل الديوان لوزارة. وهو ما حدث بالفعل. فقد صدر الأمر العالي بتحويل ديوان الأوقاف إلى وزارة متضمناً العديد من التحوطات الهادفة للنأي بها عن سلطة الاحتلال من ناحية، وعن أن تذوب في البيروقراطية الحكومية وتتوه في دهاليزها من ناحية أخرى. وأياً كانت النتائج التي ترتبت على تحويل الديوان إلى وزارة، فسرعان ما كشفت الأحداث عن أن "استقلالية" وزارة الأوقاف الجديدة كانت مجرد ستار لتمرير رغبة الاحتلال في إخضاع الأوقاف للإدارة الحكومية بتحويلها إلى وزارة. وكان مما أدى إليه هذا الإجراء أن تغير المركز القانوني لذلك الديوان؛ فبعد أن كانت شخصيته المعنوية مستقلة عن الحكومة أضحت مندمجة فيها وجزءاً منها، قسراً عنها. ومن النتائج الفورية التي ترتبت على ذلك أنه تعذر الاستمرار في الدعاوى القضائية التي كان الديوان قد رفعها على الحكومة لاسترداد بعض الأراضي الموقوفة من يدها ؛ ومن ذلك الدعوى الخاصة باسترداد مساحة 2851 فداناً من أطيان السوالم ومحلة إنجاق- بمديرية الغربية -وكانت تلك الأطيان تابعة لوقف تكيتي مكة والمدينة المنورة اللتين أنشأهما محمد علي باشا في الأراضي الحجازية لخدمة حجاج بيت الله الحرام. وكانت وزارة المالية قد استولت علي تلك الأراضي منذ سنة 1877 مقابل إيجار زهيد ظل ثابتاً حتى سنة 1924 وقدره = 672 مليماً للفدان، بينما كان متوسط إيجار الفدان آنذاك يتراوح بين 4 و8 جنيهات مصرية. ولكن دعوى الاسترداد توقفت بحجة أن المدَّعِى (وهو وزارة الأوقاف) صار في ذمة قانونية واحدة مع المدَّعى عليه (وهي الحكومة التي أضحت الأوقاف واحدة من وزاراتها!). وكانت تلك الخطوة هي الأولى في المسيرة الطويلة لاستيعاب الأوقاف وتفكيك أصولها المادية وإخضاعها للإدارة الحكومية. وكانت أطيان السوالم ومحلة إنجاق بداية مبكرة لاستيلاء الحكومة على الوقفيات وتجريد المساجد والدعوة من مصدر تمويلها المستقل. ثم توالت عمليات الاستيلاء حتى بلغت ذروتها بتجريد الوزارة من جميع الوقفيات في الخمسينيات والستينيات إبان تطبيق سياسات الإصلاح الزراعي والتأميمات الاشتراكية؛ حتى قال الدكتور عبد العزيز كامل غداة توليه الوزارة "إن وزارة الأوقاف بلا أوقاف". ولا تزال معظم أراضي الأوقاف وعقاراتها خارج متناول يدها حتى اليوم. وفي الوقت الذي توسعت فيه اختصاصاتها وصلاحياتها الإدارية والدعوية كانت وقفياتها تتضاءل مساحتها وتتراجع عوائدها. الأمر الذي أفقد السواد الأعظم من المصريين الثقة في نظام الوقف برمته . وانصب القسم الأكبر من اهتمام الوزارة منذ منتصف القرن الماضي على وضع يدها على المساجد وضبط أدائها الدعوي وضبط رسالتها السامية في إطار السياسة العامة للسلطة الحاكمة. قلت لسائلي: تلك هي يا صديقي بعض فصول حكاية "وزارة الأوقاف" مع المساجد والدعوة والدعاة خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين. أما حكايتها في العقود الأولى من القرن الخامس عشر الهجري فلها حديث آخر. فهل أجبت سُؤْلَكَ؟. قال: شكر الله لك، ولكن ليتك سكت، وما شرحت ولا أجبت، وانصرف مسترجعًا ومحوقلاً!.