في ظل ما تشده مصر من أوضاع أمنية متردية وعودة الدولة البوليسية من جديد، فالتعامل الأمني العنيف مع التظاهرات التي تخرج للمعارضة، سواء كانت حشود الإخوان التي تخرج للتنديد بما يسموه الانقلاب العسكري، أو التظاهرات التي تجتمع للتنديد بقوانين التظاهر والإرهاب، أو رفضا للمحاكمات العسكرية، فرغم أن بعض هذه الحشود تتسم بالعنف وعدم السلمية، إلا إنه كان يجب أن يكون التعامل الأمني اقل عنفا، مراعاة لحقوق السلميين، الأمر الذي جعل لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالأمم المتحدة المختصة بمراجعة التزام الدول الموقعة على العهد الدولي تنتقد أوضاع حقوق الإنسان في مصر، والتي مثلت فيه مصر للمرة الأولى منذ عشر سنوات. وأكدت اللجنة في تقريرها الأخير أنه أصبح هناك مجموعة من الهواجس المتعلقة بمجال حقوق الإنسان والتمتع بهذه الحقوق داخل مصر، وعلى الأخص ضعف الحماية القانونية لحقوق الإنسان، أيضا ارتفاع معدلات البطالة، وازدياد النقص في الأمن الغذائي، وعدم توفّر السكن بأسعار معقولة، ووصولاً إلى الانخفاض في تغطية التأمين الصحي، وعدم كفاية برامج المساعدة الاجتماعية، بالإضافة إلى النقص في الاستثمارات طويلة الأمد في القطاعات الاجتماعية الهامة، واستبعاد المجتمع المدني والمجتمعات المحلية من عملية صنع السياسات. وأعربت اللجنة عن قلقلها إزاء التفاوتات الواسعة في توفر الخدمات الأساسية، مبينه أن مصر لا تستثمر في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بشكل كاف، لافتة إلى أن مخصصات الميزانية تنخفض باستمرار، خاصة في مجال الصحة والتعليم والسكن والمياه والصرف الصحي والضمان الاجتماعي، مما أدى إلى التراجع في التمتع الفعلي بالحقوق المنصوص عليها في العهد الدولي، الذي يؤثر بشكل غير متناسب على الأفراد والجماعات المحرومة والمهمشة.
وانتقدت اللجنة في تقريرها أيضا التخفيضات في دعم المواد الغذائية وتزايد اللجوء إلى الضرائب غير المباشرة، من دون تقييم مسبق لأثارها على حقوق الإنسان التي يحتمل أن تكون شديدة ومن دون دراسة متأنية للبدائل الأكثر إنصافا لتحصيل الإيرادات، وأوصت اللجنة أن تقوم مصر بتعزيز تشريعاتها الرامية إلى مكافحة الفساد، مع الأخذ بعين الاعتبار التزاماتها الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان عند التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية، من أجل ضمان عدم تعرّض حقوق الإنسان للأذى، وخاصة للفئات الأكثر فقرا. وحددت اللجنة مجموعة متنوعة من الحقوق التي لا تتمتّع بالحماية القانونية الكافية بموجب القانون المصري، وعلى الأخص قانون العمل، الذي يحد من حرية التكوين والتعددية للجمعيات والنقابات و إتحاداتها ويفرض قيوداً على الحق في الإضراب، طالبة من مصر أن تقوم بتعديل قانون العمل وقانون النقابات، معربة عن قلقها من انخفاض الحد الأدنى للأجور في القانون لا يشكّل ضمانة لمستوى معيشي لائق وهو غير مرتبط بمعدلات التضخم، ولا ينطبق سوى على القطاع العام، مشيرة أيضاً إلى عدم وجود ضمانات كافية لتنظيم أحوال الأعداد الكبيرة من العاملين في القطاع غير الرسمي.
كما طالبت اللجنة من مصر أن تشرّع حقاً قانونياً لضمان الحيازة، لمكافحة الممارسة "واسعة النطاق" لعمليات الإخلاء القسري، ومن أجل توفير التعويض المادي والمعنوي للأفراد والأسر التي تعرضت لهذه الممارسة، بالإضافة إلى ذلك قامت اللجنة بالإشارة إلى مكامن الخلل في تنفيذ التشريعات، ووضعت توصية بأن تقوم مصر بضمان تحسين إنفاذ العقوبات القانونية لمعالجة ارتفاع نسبة عمالة الأطفال، والعنف ضد المرأة، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث(ختان الإناث)، على سبيل المثال، كما أثارت اللجنة هاجساً إضافياً يتعلّق بالفشل في حماية أماكن العبادة، ولا سيما الكنائس القبطية. وانتقدت اللجنة عدم المساواة بين الرجل والمرأة والتمييز الشديد والمنتشر ضد المرأة في كل القطاعات، وعلى الأخص التمثيل السياسي، وانخفاض الأجر وانحصار أغلب فرص العمل في القطاع غير المنظم، منتقدة التمييز ضد المرأة في قوانين الأحوال الشخصية، وأوصت بتقريرها الحكومة المصرية باتخاذ حزمة من الإجراءات التشريعية المؤقتة لضمان المساواة بين الرجل والمرأة في مجالات عدة، لاسيما في المساواة في العمل والمشاركة السياسية بما في ذلك عضوية مجلس النواب. وأكدت اللجنة مراراً على الحاجة لمزيد من الشفافية والمشاركة في اتخاذ القرار وعملية صنع السياسات المرتكزة على المعلومات، وعلى وجه الخصوص، أوصت بأن تتاح للمجتمع المدني قنوات للمشاركة في صنع وصياغة الميزانية والسياسات العامة بشكل جاد، كما دعت إلى تحسين عملية جمع البيانات المفصلة المتعلقة برصد تنفيذ القوانين والسياسات ذات الصلة. على سبيل المثال، حثت اللجنة مصر على "تطوير سياسة سوق متماسكة لمعالجة البطالة، وذلك بالتشاور مع المجتمع المدني"، ولا سيما تلك التي تستهدف النساء والشباب.
جاءت توصيات اللجنة بعد فحصها للتقارير الدورية التي قدمتها الحكومة المصرية "من التقرير الثاني إلى الرابع والمقدمين بشكل مشترك" وبعد حوارها مع الوفد المصري الرسمي،في 14 نوفمبر 2013، الذي ضم عدداً من الدبلوماسيين من البعثة المصرية في جنيف، وممثلين عن وزارات الصحة والتعليم والتعاون الدولي، وكان برئاسة مساعد نائب وزير الشؤون الخارجية لحقوق الإنسان والمجتمع المدني، وقد انتقدت اللجنة الوفد الذي لم يوفر أحدث المعلومات عن الحالة التي وصلت إليها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وفي هذا الإطار، استفاد أعضاء اللجنة من التحليل المفصل الوارد في تقرير المجتمع المدني المشترك، الذي أقرّه ائتلاف واسع يتشكّل من 58 منظمة مجتمع مدني وطنية، من ضمنها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ودولية، وتم تقديمه إلى اللجنة قبل إجراء الحوار. وتؤكّد النتائج التي توصلت إليها اللجنة على أن فشل الإدارات المتعاقبة بعد الثورة باتخاذ خطوات ناجحة لمعالجة غياب العدالة الاجتماعية الذي أشعل الثورة ، وانعدام العدالة في العمل والسكن والرعاية الصحية والتعليم ومستويات المعيشة ، لم يكن خيانة لمطالب الثورة فحسب، بل قامت أيضاً بانتهاك التزامات مصر الدولية في مجال حقوق الإنسان، فهناك حاجة لتدابير ملموسة، مثل الإصلاح التدريجي للسياسات المالية، للتمكن من مواجهة الظلم الاجتماعي الراسخ الذي تميّز به عهد مبارك، ويعتبر تنفيذ توصيات اللجنة خطوة هامة نحو تحقيق هذه الإصلاحات الأساسية، وللسير على مسار تحقيق مطالبات الشعب المصري بالعيش والكرامة والعدالة الاجتماعية.