رغم المرارة التي أجدها في حلقي كلما هممت أن أكتب عن هذه القضية إلا أنني حاولت اليوم أن أتغلب على كل الآلام النفسية التي أعانيها جراء ماشاهدت. وأكتب. لقد كان المشهد موجعاً لم تتحمله عيناي ولم تقو كلماتي أن تعبر عنه وقنها ، فلا شيء يمكنه وصف الفاجعة، عندما وصلتني على بريدي الإليكتروني روابط لفيديو يرصد حالة انتهاك صارخة لأحد أفراد الشرطة المناط بهم حفظ الأموال والأعراض بإحدى بنات المصريين البسطاء على مرأى ومسمع من العالم بأسره بعد أن تمكنت زميلتها من تصويره بهاتفها المحمول وفضحه على صفحات اليوتيوب والفيس بوك، لم يتضمن المشهد المجرم المعتدي وحده بل احتوى أيضاً على أقرانه ممن شاهدوا الاعتداء ولم تحركهم نخوة بل ربما أرادوا أن يشاركوه إهانة الفتاة بمنهجية واضحة. لقد كان الاعتداء على سمية أشرف طالبة الأزهر حلقة في سلسلة من سيناريو تبجح أفراد الشرطة واغتيالهم كل الأعراف والتقاليد وتجبرهم بما يملكون من ضوء أخضر لانتهاك كرامة المواطن بلاخوف من عقاب أو محاسبة، في ظل نظام فاسد وقوانين مطاطية معقدة الاجراءات. لكن ماحدث حتى مع تبجح أفراد الشرطة وجبروتهم لم يكن ممكناً في مجتمع شرقي ولاأقول إسلامي تحكمه أعراف وتقاليد عربية من مروءة وشهامة كان يتحلى بها الرجال من أبنائه، أياً كانت ديانتهم ومللهم ، تخبرنا بذلك سطور التاريخ التي روت لنا مواقف أبو جهل وبقية الرجال من المشركين الكفار مع حرمة النساء والحفاظ عليها وعدم التجروء على انتهاكها رغم فسادهم وكفرهم، إلا أن ذلك كان خطاً أحمر حقيقياً لايمكن الاقتراب منه أو العبث به، حتى مع تطور العصر واختلاط الأجناس والألوان احتفظنا بالقيم والأعراف والتقاليد،التي احتفظت على مر التاريخ للمرأة بمكانتها وحقوقها دون قوانين أو منظمات تحميها، فوقت أن كان هناك احتلالاً للبلاد لم يكن المستعمر يجروء على انتهاك حرمة امرأة أو التعدي عليها إلا وسط حماية مدججة بالسلاح من جيشه ، وحتى هذا كان دافعاً قوياً لثورة الرجال من أبناء الوطن لحفظ كرامتها واستعادة حقها والحفاظ على حرمتها، لقد كان الرجل يغار على حرمة المرأة حتى لو لم تكن له بها صلة ، كانت تلك هي "نخوة أولاد البلد" كما يطلقون عليها ، فلماذا إذاً اختفت هذه النخوة وضاعت المروءة والشهامة وتراجعت الرجولة لتسمح بهذا المشهد المتكرر لأن يحدث رغم وقوعه في رمز الفلاحين وثورتهم مدينة الزقازيق ، التي ظلت طويلاً مثالاً حقيقياً للأصالة ونموذجاً لأولاد البلد بطيبتهم وكرمهم ومروءتهم، وأياً كانت المبررات سواء الاختلاف السياسي أو عبادة المأمور فإن ذلك لايبرر ماحدث ، لقد كانت كلمة شائعة لدى الرجال قديماً عندما تتعدى عليه إمرأة – وهذا لم يحدث في قصتنا – سواء باللفظ أو السب فيقول لها "مش عاوز أمد إيدي على حرمه"، وبعضهم كان يقول "عمري مامديت إيدي على إمرأة" ذلك مع إهانته أو التطاول عليه ، فلماذا مد هذا المجرم رجله ويده ولماذا تبدلت القيم ، ولم تعد هناك حرمة ؟ فكما يبدو من المشهد أن بطله هو أحد أبناء الأقاليم الذي يفترض أن يكون تربى على هذه الخصال وتلك القيم ، وربما يكون من أبناء محافظة الشرقية نفسها وتربي بين أحضان طينها وفلاحيها؟؟!!! يؤسفني حقاً أن أستخدم مفردات الماضي للحديث عن قيم أصيلة فأقول كان وكنا ، لكن للأسف تلك هي الحقيقة المرة، الحقيقة التي تجيب عن تساؤلي السابق لماذا انتهكت حرمة المرأة في عقر دار الفلاحين أولاد البلد أصحاب النخوة والطيبة والمروءة. لقد انتهكت لأن أولاد البلد لم يعودوا أولاد بلد ، أو لنقل مواصفات أولاد البلد اختلفت وتبدلت ، فنرى أبناء السبكي يرسمون صورة جديدة لأولاد البلد الراقصين الماجنين الذين يتداولون المرأة وجسدها كسلعة أساسية في يومياتهم ، فتفاجأ بأن ابن البلد كما يرى صناع الفيلم لايكون ابن بلد إلا وهو مدمن يتعاطى المخدرات بصورة علنية بلارادع ولاخوف ، ولايكون ابن بلد إلا إذا كان شبيهاً لسعد الصغير وبالتبعية فبنت البلد لابد أن تكون راقصة أقصد الراقصة "دينا" ، ليس هذا المفهوم الجديد هو رؤية السبكي فقط لكن كل صناع السينما يعتمدون ذلك في أفلامهم ، ويعد الفيلم ناجحاً كلما زادت نسبة مشاهده الفاضحة لبنت البلد!! أنا لم أذهب بعيداً عن قضيتنا وانتهاك حرمة سمية أشرف، فإن هذه الأفلام والمسلسلات أصبحت جزءً رئيسياً في تكوين الأجيال الحديثة وأصبحت ماتتناوله يترجمه أبناء الشعب سريعاً لمفردات يومية في حياتهم، وبالطبع فإن بطل قضيتنا اليوم هو واحد من هؤلاء الذين تربوا على هذه الأعمال الهابطة التي شكلت في وجدانه مفاهيم مغلوطة وقيم مقلوبة ، ورسخت في عقله الباطن صورة عاهرة للمرأة وطريقة التعامل الواجبة معها، فهو وأمثاله يرون المرأة سلعة رخيصة كما صورها لهم إعلامنا الهمام المتشدق بحقوق المرأة "العاهرة" فقط. إن ماارتكبه هذا الضابط نتاج تراكمات فكرية أصبحت معتقدات عن المرأة ومايجب تجاهها ، إنني أزعم أن هؤلاء المجرمين من صناع الإعلام المصري هم المحرك الرئيسي لدوافع ذلك الأراجوز المنفذ على خشبة مسرح الجريمة ولاأعفي من ذلك أحداً، لقد شكل الإعلام الماجن صورة مريبة للمرأة حدد فيها مهمتها الغريزية المقيتة معتبراً عريها وتفسخها نموذجاً للحرية المنشودة للمرأة ، وانتهك ستر المحصنات في حرمهن ، ليتحدث بلاأدنى خجل عن العلاقات الزوجية الحميمية بين الرجل والمرأة ومايستحي اللسان عن النطق به من مفردات تخص الحياة الخاصة ، لتصبح مفردات يومية يتلفظ بها عامة الشعب في الأماكن العامة والمواصلات ، لقد أصبحت تنهى بعض العامة عن التلفظ ببعض المفردات الخادشة في الأماكن العامة والمواصلات مذكراً إياه أن هناك امرأة تسمع، لم يعد هناك حياء!! خدشت الأستار وانتهكت الحرمات، وتبدلت النظرة للمرأة وحقوقها. إن مادفع هذا المجرم لارتكاب جريمته اليوم ليس دوره الذي يؤديه لخدمة النظام فحسب ، لكنه أيضاً امتداد طبيعي للتفسخ الخلقي الذي أشاعته وسائل الإعلام وانتهاكها لحرمة البيوت ، إنني أتحدى قاريء المقال أن يعود بذاكرته للوراء قليلاً ليتذكر معي كيف تغيرت قيمه هو الشخصية مع الوقت وأصبح يستمرىء مايبثه الإعلام المرئي من قباحات.... أتذكر؟ لقد كنت قديماً تخجل من مشاهدة لقطات الحب والغرام الحميمية – أحتفظ بنظافة لساني عن الوصف الدقيق بألفاظه – في أفلام السينما بل ربما تغلق التلفزيون إن رأيت مشهداً منه وأبناءك معك ، تطور الأمر لتصبح المشاهدة عادية ، وتطور بصناع السينما تجرؤهم وتبجحهم ليصفوا للمشاهد مايحدث بغرف النوم وكأنه لايعرفها؟ لكنها الضرورة التسويقية الرخيصة. ومع هذا التطور من الجانبين المشاهد والمنتج أصبحنا نرى هذه المشاهد عادية فلا نخجل منها ولانرفضها عندما يشاهدها ابناؤنا ، أدى ذلك بلاوعي أنك قد تشاهد في الشارع مثل تلك المشاهد فلاتنكرها لأنه وببساطة اعتادت عينك على مشاهدتها في وسائل الإعلام ، فنزع ذلك النخوة والمروءة من القلوب، لأن ستار الحياء والعفة قد نزع وأصبحنا نرى المرأة عارية تحكمنا في تعاملنا معها نظرتنا الدونية الوضيعة فيظهر ذلك في الانفعالات والمواقف الحرجة، وتطفو على السطح القباحات. إنه العقل الباطن ، الوجدان الذي يحرك المرء في انفعالاته ومواقفه ونظرته لما حوله، ومن حزنٍ أن نقع جميعاً في فخ الرذيلة فيتشكل وجداننا بقيمٍ وضيعة وإن اختلفت درجة التأثر والتشكل ، لكننا جميعاً أسرى لهذا القبح ، يدل على ذلك ردود الأفعال الواهية التي أصبحنا نلجأ إليها عند كل مصيبة وفاجعة، ومن حزنٍ أكثر أن تتشكل قيم أبنائنا من هذه المعطيات وأن يضم كل بيت قنبلة موقوته بين أعضائه بنظرته للمرأة وحقيقة علاقته بها ليتجلى ذلك مستقبلاً في مجتمع فاسد لايعرف للمرأة حقاً ولايحفظ لها كرامة ، مجتمع يصبح أفراده مسخاً جديداً للقيم والتقاليد ، فلانجد حتى تلك الانفعالات الهزيلة وردود الأفعال المتواطئة التي نفعلها اليوم ،وربما نتحدث اليوم بألفاظ الماضي وغداً لاتسعفنا تلك المفردات لوصف المشهد. *رئيس تحرير موقع دلتا اليوم الإخباري www.deltaelyoum.com