لن أكتب اليوم، سوف أفسح المساحة إلي رسالة وصلتني من الدكتور عبدالحليم عبدالغني رجب، بجامعة بامبرج في ألمانيا.. ولم يسبق لي أن عرفته.. وفيما يلي نصها بعد اختصارات بسيطة جدًا: "أكتب هذه السطور في ظل اعتبارين: الاعتبار الأول أنني من أبناء إحدي الجامعات المصرية العريقة، تعلمت وتخرجت وقمت بالتدريس وبالبحث العلمي فيها. ولذا فأنا علي إلمام بالواقع العلمي في الجامعات المصرية. والاعتبار الثاني أنني أقوم بالبحث والتدريس حاليا في واحدة من الجامعات الأوروبية المعروفة وأعيش هنا داخل الحدث العلمي والواقع التدريسي في الغرب. تناول عبدالله كمال وضع الجامعة في مصر ووصفها "ببيت الداء". وما أظن أنه تجاوز الحقيقة بهذا الوصف. ربما يكون هناك من يختلف مع هذا الرأي. لكني عندما أقرأ قوله وتشخيصه الدقيق والصريح لا أجد أبدًا أنه جانب الصواب في أي كلمة دفع بها. أعجبني قوله: إننا نعيش "في عصر لم يعد فيه علم بعيد عن غيره.. والثقافة متشابكة.. والمعارف تتفاعل.. ولا أستطيع أن أثق في أن عددًا كبيرًا من الأساتذة قد دخلوا مكتبات كلياتهم وجامعاتهم منذ سنين.. هذا إن قرأ غالبيتهم الصحف اليومية". ما يقوله عبدالله كمال في هذه الفقرة هو بنفسه "الداء" الذي يتحدث عنه، وهو في نفس الوقت ومن زاوية أخري الوصفة الأوروبية العلمية لمهنة العلم ومزاولته. ولا أظن أن الكاتب قد تجني بوصفه هذا علي أي من الأساتذة. إننا فعلا نعيش في عصر لم تعد فيه العلوم بعيدة عن بعضها البعض. المعارف تتشابك مع بعضها البعض، ولم تعد الحدود التقليدية للتخصصات ذات أهمية. الأمر السائد هو نسف هذه الحدود التقليدية نسفا. ونظرًا لأني قادم من محيط العلوم الإنسانية أستطيع باطمئنان أن أتكلم عما هو سائد معرفيا داخل هذه المنظومة. من يستطيع دراسة الأدب دون معرفة علم الهرمنيوطيقا، ومن يتسني له معرفة الهرمنيوطيقا دون دراسة التراث الفلسفي في الشرق والغرب. والفلسفة في الثقافات والحضارات لم تنشأ بمعزل عن المعارف الأخري. لا يمكن لعالم دين مثلاً أن يقوم بتفسير القرآن الكريم دون الإلمام بكل هذه المعارف. لذا الاتجاه هنا في جامعات الغرب هو دراسة هذه المنظومة التشابكية المعرفية التي يتحدث عنها عبدالله كمال. وقد اشتق الغرب خصيصًا لهذا النهج البحثي مصطلحا يجمع فيه هذا التشابك المعرفي ويطلق عليه اسم "النظم المعرفية البينية" إن صحت الترجمة. فأين الجامعة المصرية من كل هذا اليوم؟ لقد وضع عبدالله يده علي الداء، بعد أن أصبح الهم الأوحد لأساتذة الجامعة في مصر والمترقين فيها هو جمع القصاصات والاقتباسات من هنا وهناك وتنميقها كي تصبح بحثا للترقية لا أكثر ولا أقل، أو كتابا ينشر، دون أن يعاني صاحب هذا البحث أو ذلك الكتاب المشكلة العلمية في حد ذاتها ودون أن يكابد مشقتها. هناك قصص كثيرة تروي عن أساتذة يطلبون من تلامذتهم كتابة الكتب والأبحاث التي تنشر تحت أسمائهم فيما بعد. هذا هو للأسف الوضع الواقعي للبحث العلمي في جامعاتنا، وهو الوضع الذي يجب أن نتكلم عنه صراحة، إن بغينا إصلاحا. عندما عاد طه حسين من فرنسا بعد حصوله علي الدكتوراه عن ابن خلدون، قام بتدريس الأدب اليوناني والروماني. لم يقل طه حسين وقتها إنه متخصص في الأدب العربي فقط! لقد بني الرجل نفسه علميا بصورة موسوعية شاملة جعلته كفئًا لأن يكون فارسا في كل ناد. أشفقت كثيرًا علي الدكتور أحمد زويل عندما طالب بوجود "المجتمع العلمي". والمقصود هو ذلك المناخ العلمي العام، السوق إن جاز التعبير التي تعرض فيها السلع العلمية أمام كل منتقد وكل متنافس، تماما مثل السوق في مجال التجارة. لم يخطئ عبدالله كمال عندما كتب: "أنت يمكن أن تقابل أساتذة جامعة الآن مستواهم العلمي لا يرقي لمستوي الخريجين الذين يدرسون لهم. بعضهم يفتح فاهه مندهشا حين يسمع أمرًا عامًا.. لأنه لا يعرف شيئًا خارج المقرر الذي يدرسه.. هذا إذا سيطر علي أبعاده وتمكن منه". وذكر في مقاله قصة الدكتور نصر حامد أبوزيد. كان من حسن حظي أن التقيت الدكتور نصر أبوزيد في أكثر من مؤتمر علمي. وأدهشني الرجل كثيرًا بتواضعه أولاً وبخفة دمه وروحه المصرية الأصيلة وبعلمه الغزير. ليس نصر أبوزيد مجرد باحث في علوم القرآن، بل هو مشروع علمي تأويلي متكامل يتحرك علي رجلين. هذه هي المشاريع التي تحتاجها الجامعة في مصر. وهذا هو المجتمع العلمي الذي ينادي به زويل. وهذه هي موسوعية طه حسين. لا يوجد حل للجامعة المصرية إلا بتحررها من أبحاث القصاصات واللصق والتنميق. ومن لا يستطيع التجديف في غمار بحر العلم، فالغرق أشرف له، ويكفيه شرفا أنه قضي في بحر العلم". انتهت الرسالة.. وأكمل غدًا.
الموقع الإليكتروني : www.abkamal.net البريد الإليكتروني : [email protected]