أعلم أن ملف "أموال الكنيسة" بالغ الحساسية، خاصة للقيادات الدينية الأرثوذكسية، وسبق أن عاقب البابا شنودة واحدا من أبرز رجال الدين الإصلاحيين، وهو القس الراحل إبراهيم عبد السيد، على "جرأته" وتناوله هذا الملف الحساس بالنقد في الصحف وفي مؤلفاته، خاصة بعد أن وضع كتابا تحدث فيه صراحة عن "أموال الكنيسة"، وهو الكتاب الذي استفز البابا شنودة وحمله على الاقتصاص من هذا القس النبيل، قصاصا خلا من "الرحمة" بل ومن أي وازع إنساني، بلغ حد قراره الشهير بعدم الصلاة عليه بعد وفاته.. بمعنى آخر ب"تكفيره"! قسوة الحكم الكنسي على القس الراحل "عبد السيد"، عكست "حساسية" مفرطة، إزاء هذا الملف على وجه التحديد، ويعني أن ملف "أموال الكنيسة" خط أحمر، لا يطلع عليه إلا البابا وحده، والذي بالغ في فرض "القداسة" عليه، على النحو الذي يجيز له "تكفير" من يحاول الاقتراب منه أو فتحه "سرا" أو "علانية". بعد وفاة عبد السيد، ظل هذا الملف طي "السرية" كما كان، لا يتحدث عنه أحد لا مسلم و لاقبطي، درءا ل"الفتنة" إذا كان مسلما، وخوفا من "العقاب" إذا كان قبطيا، إلى أن أعيد فتحه مع أزمة وفاء قسطنطين عام 2004، عندما أشار المستشار طارق البشري في مقال له نشر في صحيفة "العربي " الناصرية، إلى أن دخل الكنيسة السنوي يبلغ نحو 2 مليار دولار، غير خاضعة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، بعدها بدء التساؤل عن أموال الكنيسة، وكيف تجمعه وفيما تنفقه؟. لم يلتفت أحد إلى أهمية كتابات القس عبد السيد لا قبل وفاته ولا بعدها، رغم أنها كانت تتنبأ بما هو آت من احتقان طائفي، وأن الأمور داخل الكنيسة تجري في اتجاه تأجيج هذا الاحتقان من جهة، وتصدير مشاكلها الداخلية للمجتمع خارجها من جهة أخرى. كان القس الراحل لا يترك كاتبا ولا صحفيا يعرفه أو لا يعرفه إلا وأهداه كتبه، كانت الأكثرية "تجامله" بكلمات رقيقة ثم لا تعبأ بما كتب، والإقلية منهم كانت تهتم ولكن باعتبارها شأنا قبطيا داخليا، أو ربما نظرت إليه باعتباره جزءا من صراع الأجنحة داخل الكنيسة، وقد أثبت عبد السيد أنه كان يتمتع بوعي رفيع وراق بخطورة تجاهل ما يجري داخل الكنيسة، باعتبارها شأنا مستقلا عن الوطن الأم، وحذر من خطورة هذا التجاهل لأن الأزمة والاحتقانات الكنسية الداخلية وطريقة إدارتها وإدارة أموالها، ستفرز أوضاعا خطرة، ستتخطى أسوارها القلاعية العملاقة، وسيجد المجتمع كله يوما ما متورطا في "محنة طائفية" لم يصنعها هو، وإنما صنعها تجاهل النخب السياسية والفكرية والثقافية "الكنيسة" ومشاكلها وكأنها "حالة خاصة" ، والخوف من التورط فيما يفسر بأنه "طائفي" أو "متطرف" أو "ظلامي".. والنتيجة أن تراكمت المشاكل وصدرتها الكنيسة للمجتمع وللدولة وبدت هي وكأنها " ضحية" أو "مجني عليها" وبدا المسلمون وكأنهم "متهمون" أوعلى أقل تقدير هم اصل المشكلة! بالتأكيد اليوم توجد أزمة ثقة بين الكنيسة والمجتمع، ويبدو لي أن جزءا من حل هذه المشكلة هو في يد الأولى من جهة والدولة من جهة أخرى.. وإذا كانت الأخيرة تتحسس من التعاطي مع الكنيسة ب"صراحة" في كثير من الأمور، فإن الوقت قد حان لترتيب الأولويات، وأن تبدأ الكنيسة وبمبادرة منها لبناء الثقة بينهما بفتح ملفي "أموال الكنيسة" و"أسرار الأديرة".. إذ يظل هذان الملفان هما الأكثر جدلا وسخونة في التجاذبات الطائفية الدائرة الآن.