وقف المسؤول الكبير أمام كاميرات التليفزيون؛ وهو ينصت إلى سؤال خبيث من المذيعة المتألقة: هل في برنامج الحكومة تفعيل الحراك الديموقراطي؛ مثلاً بإطلاق حرية تشكيل الأحزاب، وحرية تداول السلطة بالانتخابات، أسوة بما نراه في دول الغرب!؟. فرد عليها بثقة: نحن نسير على طريق الديموقراطية؛ وبالمستوى الذي تتحمله شعوبنا؛ لأنها ليست مؤهلة للديموقراطية المنشودة والغربية التي نراها هناك!؟. لقد أدهشني أنه كان يتكلم عن قناعة راسخة؛ ولعله رُبِيَ عليها في ثقافة أروقة حزبه المهيمن منذ عقود كئيبة مظلمة وكاتمة على أنفاس شعبه المسكين!؟. ولكن ما أفزعني في حديثه هو تأكيد تلك المذيعة الحكومية باطناً والمعارضة ظاهراً؛ على أطروحاته الفكرية؛ وكأنها تريد أن تصيغ عقلنا الباطن على هذه القناعات النفسية والاجتماعية المكبلة؛ والتي تزرع في داخلنا ليل نهار؛ ثم تظهر على هيئة سلوكيات اجتماعية شاذة؛ مثل سلوكيات الخنوع، وسلوكيات الرضا بالأمر الواقع، وسلوكيات ازدراء أنفسنا، وسلوكيات اليأس من التغيير، وسلوكيات تبرير هذا الكبت والتضييق الحكومي!؟. هل يتأثر سلوك الفرد بتغير القيادة والمناخ؟! وهنا تذكرت ما قرأته في كتاب رائع للدكتور حامد عبد السلام زهران وهو (علم النفس الاجتماعي). حيث أورد دراسة رائعة قام بها (رونالد لبيت ورالف هوايت) عام (1943م)، حول (تأثير أنواع القيادة والمناخ الاجتماعي على سلوك الفرد والجماعة)!؟. وكان هدف التجربة دراسة سلوك الفرد وسلوك الجماعة، تحت مناخات اجتماعية ثلاثة، ودراسة رد الفعل الحادث عند الانتقال من أحد هذه المناخات إلى مناخٍ مغاير. وكانت عينة البحث، تتكون من تلاميذ في فرقة دراسية واحدة، سنهم عشر سنوات، قسموا إلى أربعة نواد، وبكل ناد خمسة أطفال، ولكل ناد أسم معين. وكان أهم مما ورد في نتيجة الدراسة، التي تمت في مناخات اجتماعية ثلاثة هي: (1)المناخ الديموقراطي: أي تحت قيادة ديموقراطية أو إقناعية. فكان كل فرد يشعر بأهمية مساهمته الإيجابية. وأنهم أكثر تحمساً. وأكثر ترابطاً وتماسكاً. والشعور بال(نحن) قوي والروح المعنوية مرتفعة. وإذا غاب القائد كان العمل والنشاط هو نفسه كما كان في حضوره!. وكان الأهم في النتيجة كلها؛ هو أن السلوك الاجتماعي كان يميزه الشعور بالثقة المتبادلة، والود والتجاوب، والاستقرار والراحة النفسية. وكان الإنتاج حسب الخطة الموضوعة. وكان هناك شعوراً دفاقاً بالاعتزاز بما أنجزوا. (2)المناخ الأوتوقراطي: أي تحت قيادة أوتوقراطية أو استبدادية أو إرغامية أو تسلطية أو دكتاتورية. كان الأفراد لا يعرفون أهداف النشاط، بل يحدد لهم خطوة خطوة. مع عدم معرفة الخطوات التالية. وليست لهم حرية اختيار زملاء العمل بل يفرض عليهم. وإذا غاب القائد حدثت أزمة شديدة، وتوقف للنشاط، وكاد أن ينحل عقد المجموعة. وكان السلوك الاجتماعي يميزه روح العدوان، والسلوك التخريبي، وكثرة المنافسة أو الخنوع والسلبية، والعجز واللامبالاة. ويزداد اعتمادهم على القائد. ويسود جو من انعدام الثقة المتبادلة. ويسود روح التملق والنفاق والتزلف للقائد مع كرهه، والسعي لجذب انتباهه. ويسود الشعور بالإحباط والصد والحرمان وعدم الاستقرار والقلق وحدة الطبع وانخفاض الروح المعنوية. وقد يتم الإنجاز ولكن بلا شعور بالاعتزاز والفخر. (3)المناخ الفوضوي: أي تحت قيادة فوضوية تؤمن بالحرية المطلقة التي بلا ضابط. كانت النتائج وسط بين المناخين السابقين، مع بعض الاختلافات، وبروز روح العفوية، المرتبطة بظروف التفاعل الاجتماعي. إذن؛ فالمناخ الاجتماعي الحر السوي؛ يثمر سلوكاً حراً سوياً!. وكذلك العكس بالعكس!؟. الخلاصة: وهو ما خرجت به من هذه الدراسات هو هذه النتائج التي تفيدنا أسرياً ومؤسسياً بل واجتماعياً وحضارياً: 1-سلوك الفرد أو الجماعة معيار ومقياس وعلامة على المناخ السائد. 2-غير القيادة يتغير المناخ. 3-غير المناخ يتغير السلوك الفردي والجماعي. 4-تدبر هذه المعادلة ولاحظها داخل أسرتك أو مؤسستك أو بلدك: (القيادة السوية تنشئ المناخ المؤسسي السوي؛ والذي بدوره يفرز السلوكيات الفردية والجماعية السوية؛ والحصاد النهائي هو أسر أو مؤسسات أو دول رائدة ومنتجة وناجحة) ترى أنا لم أزل حالماً مسكيناً؛ يتمنى أن تصل هذه الدراسة إلى هؤلاء المهيمنين، أو على الأقل تصل إلى القانعين الذين على أمرهم مغلوبين؛ فيعلموا أن سلوكياتنا قد أفسدها قياداتنا!؟. استشاري أطفال زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية