يجتمع المتحاورون من الساسة اللبنانيين حول طاولة مستديرة مرة تلو أخرى وينفضون عنها من غير تقدم قيد أنملة. إخفاق متوقع، وتعثرات لم يكن التنبؤ بها صعباً البتة. فاللعبة السياسية القائمة في لبنان تحكمها معايير تتجاوز حدوده الجغرافية، إضافة إلى أن المتحاورين ليسوا بأطراف أصيلة في الصراع السياسي القائم، كما أن الأزمات السياسية اللبنانية تستعصي على الحلول طالما أصر الأفرقاء المتحاورون على اعتماد الطائفية أساساً لها. وهكذا نجد أن الحوار محكوم عليه بالفشل مسبقاً بمعادلات محلية وإقليمية ودولية معقدة. فمحلياً، يلعب العصب الطائفي أثراً مباشراً في إدارة الأزمة. حيث تقدر قيمة كل رمز من أطراف الحوار بالحجم الذي يمثله في طائفته، وهو ما تجري على أساسه المساومات وتعقد الصفقات، وعليه ينحصر التفكير أثناء الحوار بما يضمن زعامة السياسي ضمن طائفته، ولذلك فإنه يقدم مصلحة الطائفة دوماً على مصلحة الشعب والوطن. وأما إقليمياً، فإن كل طرف له سند، لا يحق له قطع الأمور بدون الرجوع إليه. وهو ما أشار إليه بشار الأسد بحق رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، بعبد مأمور لعبد مأمور، وهو المفهوم الذي أكده سعد الحريري رئيس تيار المستقبل باعتذاره علناً عن خطئه في عدم القبول بالمبادرة السعودية لحل الأزمة مع سوريا، ما يعني أن السنيورة مرتبط بسعد الحريري والأخير مرتبط بملك السعودية. وأما البعد الدولي، فإنّ الارتباط بالأجنبي هو الآفة المستديمة التي التصقت بساسة لبنان ورموزه، وقد توارث الوسط السياسي تلك الصفة فيه جيلاً بعد آخر. وتمثل اوروبا وأميركا طرفي الصراع الحقيقي في لبنان كما في سائر المنطقة. ويشهد لذلك حركة سفيري أميركا وفرنسا الدؤوبة كفرسي رهان في سباق حاد للهيمنة على لبنان. وإذا ما وضعنا البعد الطائفي والتباين الإقليمي في سياق الصراع الدولي على المنطقة، نجد أن الإخفاق هو النتيجة الطبيعية لحوار بيادق الطاولة المستديرة. إذن لماذا الحوار والنتيجة معروفة سلفاً؟ في الواقع، تعتبر جلسات الحوار أقرب إلى استراحة المتلاكمين في الحلبة، فقد وصلت الأطراف المحلية في التنافس والصراع إلى أبعد مدى ممكن عملياً في الوقت الراهن، وقد أدركت أنها لا يمكنها السير قدماً بدون مخاطر حقيقية، يخشى الجميع من تداعيات مخيفة لها. فلكل مظاهراته وجمهوره ووزراؤه ونوابه وسنده الإقليمي والدولي. لذلك آثرت تلك الأطراف لحاجة في نفس كل منها تبادل أطراف الحديث ونقل بعض صراعاتهم على الفضائيات إلى غرفة مغلقة ريثما يحقق كل غرضه من اللقاء بانتظار ظهور نتائج التحقيق الدولي في اغتيال الحريري، فيطور كل فريق مواقفه استناداً لذلك. والجدير بذكره أن حيثيات الحوار لا تتناول أشخاصاً أو أحزاباً بقدر ما تتناول أدواراً لها، ولذلك كان لا بد من وضع مسائل الحوار المطروحة (رئيس الجمهورية وسلاح حزب الله) في سياق القضايا التي تمس بها وعلاقتها بمصالح الدول الكبرى في المنطقة. فإقالة الرئيس لحود والإتيان برئيس آخر موال لفرنسا في لبنان، يعني شد الخناق على حزب الله وإجباره على تسليم أسلحته، وبالتالي إزاحة فعالية دوره في تأمين نفوذ سوريا في لبنان، مما يفقد النظام السوري ورقة هامة يحملها ويريد استعمالها تضمن بقاءه واستمراره في الحكم لقاء مقايضة تلك الورقة إضافة لأوراق أخرى مع الإدارة الأميركية بما يحقق لها خطتها فيما يتعلق بقضية الشرق الأوسط. على كلٍ فإنّ قضية لبنان وتفرعاتها لا تخرج عما ذكرناه آنفاً. وبغض النظر عن نتائج التحقيق، فإن المعضلة الطائفية ستبقى حاضرة، ولن تتخلى سورية عن أوراقها في لبنان، وقد يصل الأمر بها في وقت ما إلى حد فرض مقايضة سلاح حزب الله بإلغاء مارونية موقع رئاسة الجمهورية، وهو ما أشارت إليه جريدة البعث مؤخراً حين قالت: إن ايميل لحود سيكون آخر رئيس ماروني للبنان. وهو إن حصل، سيؤمن إتمام الحل الأميركي لقضية فلسطين، حيث ان انكسار جانب الموارنة، سييسر توطين الفلسطينيين المقيمين في لبنان آنذاك من غير معوقات كأداء.