كتاب (الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين , قصة خروج أسرة يهودية من مصر) يحتاج وقفة متأنية ونقدا موضوعيا لما جاء بين صفحاته , فهو ليس مذكرات لطفلة في السادسة من عمرها غادرت أسرتها اليهودية مصر , فليس من المعقول أن تختزن ذاكرة طفلة لا تجيد العربية كل هذه النفاصيل , والعودة إلى مرحلة أبعد من المدة التي أرادت رصدها بكثير , بل هو في الواقع محاولة للتباكي على ظلم مصطنع تجاه فئة عاشت بين ظهرانينا نحن العرب والمسلمين مئات السنين في أمن ورخاء . السيرة تبدأ قبل ولادة الكاتبة بثلاثة عشر عاما 1943وكذلك تعود لأبعد من ذلك بكثير أمام عرض لسيرة الجدة الحلبية اليهودية (ظريفة) من جهة الأب , أو الجدة الاسكندرانية (الكسندرا) من جهة الأم , وواقع حال مصر إبان الحرب العالمية الثانية . تتحدث عن والدها المقامر, وزير النساء ,والسمسار, وعميل الأنكليز والمضارب بالبورصة والمتدين الذي لا ينقطع عن المعبد والصلوات , وتبالغ في وصف والدها وعلاقته بالملك الفاسد المقامر صديق اليهود كما تصفه , ثم تصب جام غضبها على الثورة والرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومن ثم تتحدث عن مأساة النفي عن مصر عام 63كما ادعت. وفي طيات المذكرات يمر مع القارئ تحول العم إلى المسيحية أمام غضب الاسرة والجدة ظريفة الحلبية , فهل تحول العم للمسيحية أم أنه التحق بمنظمة صهيونية هي سيدة صهيون ليغادر إلى القدس ويقدم الخدمات لليهود القادمين من كل أرجاء الدنيا ...؟! فالعم سالمون اعتنق المسيحية ومن ثم عاش في دير بندكتي في القدس منذ عام 1925 وقيل إنه استطاع أن يهرب آلاف الأطفال اليهود من أوربا إبان الاحتلال النازي لأوربا ..! العم سالمون أصبح اسمه فيما بعد الراهب جين- ماري , ومنظمة سيدة صهيون تأسست على يد يهودي فرنسي( تيودور رايتسيون) الذي تحول إلى المسيحية عام 1830 ...! تتباكى كثيرا على رحيلهم وقبل ذلك على موجة التعريب التي قادتها الثورة , وأسرتها تزدري اللغة العربية , فالأسرة لا تتخاطب باللغة العربية بل بلغات أوربية ...! وتصف القاهرة قبل ذلك أنها باريس أفريقيا ومحط أنظار الدنيا قبل الثورة فقد تهافت عليها الأجانب من كل حدب وصوب ... وتشعر القارئ بمأساة مصطنعة عن هجرة اليهود إلى أرض الميعاد كما تطلق عليها , ولكنها لا تذكر فلسطين أبدا .. حاولت كثيرا أن تلعب بعواطف القرّاء بإضفاء حالة من الحنين إلى قاهرة 43 وهي فيما بعد تجري المقارنة مع قاهرة الثورة ومابعدها , فقد مُنع ارتداء الطربوش , وغيرت أسماء الشوارع وهجر الأجانب , وصودرت الملكيات والأسهم .. وبدت باريس أفريقيا تحت حكم عسكري يذهب بها نحو آيدلوجيات همها تخريب الوعي ..! لكنها نسيت أو تناست واقع الاقتصاد المصري الذي كان مسيطرا عليه من قبل الأجانب الوافدين , وواقع الإنسان المصري البسيط أو (الغلبان) وتناست أن خطوات التمصير كانت نداءات ومطاليب سابقة على ثورة يوليو ومنذ ثورة 1919. قصة رحيلهم على ظهر الباخرة الفرنسية وكلمات والدها (رجعونا لمصر) لم تكن بأمر من الثورة بل كانت بسبب سقوط أختها المراهقة أو الجامحة في مستنقع الرذيلة مع جندي سويدي من الأممالمتحدة , وإن حاولت تبرأتها فيما بعد,و أن ما جرى لم يكن سوى لقاء في كافتيريا مع صديقتها وجندي آخر ..! لتقول: إن حالة من التخلف قد وسمت القاهرة بعد الثورة ..! غرقت كثيرا في التفاصيل عن سيرة أسرتها ومكان سكانها وعلاقات الأسرة وأفراداها مع الناس , هذا ما يجعل ذهن القارئ في تشتت يبدومقصودا , لا سيما وأنها تشعر القارئ أنها تتحدث بموضوعية حينا تتطرق لأحوال بيت جدها من جهة الأم والحديث عن خالها اللص (فيلكس) الذي سرق خاتم الخطوبة الذي قدمه والدها (ليون) لأمها (إديث) ومسيرة الخال الذي اعتاد على النصب والاحتيال واللامبالاة مع أسرته , ومن ثم موقفه مع أسرته المهاجرة لفلسطين . لا تخلو الرواية من إشارات استفهام عديدة , ومنها : • علاقة والدها بالملك فاروق ولعبهما القمار ..؟ • علاقة والدها بأم كلثوم التي ادعت أنها كانت خليلة له ..! • الخال الطفل الذي باعه جدها في سوق العرب ..! • تحول العم إلى المسيحية ومن ثم تقديمه المساعدة لليهود القادمين إلى فلسطين ..! • علاقة والدها بالأنكليز إبان الحرب بين الحلفاء والمحور ..! • الإشارة في أكثر من موقع ل (موسى بن ميمون) • حرائق القاهرة ومن يقف وراءها..! • تأميم قناة السويس , وتمصير الاقتصاد المصري. • مأساة تهجير اليهود - كما تدعي- هكذا تباكت المؤلفة على ما أسمته محنة اليهود والأجانب في مصر بعد الثورة .. ولكن ماذا عن ملايين الفلسطينيين الذين انتزعوا من أرضهم انتزاعا ...؟ الكاتبة خرجت من مصر في مارس آذار 1963, وعادت لتوقع كتابها الذي عُرب في مصر في مارس آذار 2010 فهل كان ذلك محض صدفة ..؟ وكتابها الذي تقسمه كتابين جاء كل جزء بأثني عشر فصلا على عدد أسباط بني إسرائيل ...! فهل جاء كذلك مصادفة .. ؟ لاسيما وأننا نلمح ربطا بين خروج موسى عليه السلام مع قومه من مصر وحنينهم لمصر وما تنتج أرض مصر , وكذلك خروج والدها ليون وأسرته , وحنينهم لمصر وحياة مصر وطعام مصر ... ليردد دائما (رجعونا لمصر)..؟! الكتاب : الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين , وقائع خروج أسرة يهودية من مصر تأليف : لوسيت لنيادو ترجمة وإصدار : دار الطناني القاهرة 2010 تعليق : محمد حسين يونس جاء الكتاب في ثلاث مئة وسبع وثمانين صفحة من القطع المتوسط , واشتمل على كلمة الناشر , ومقدمة المؤلفة إلى قراء الطبعة العربية , وتمهيد اسمته : غزل في القاهرة ربيع 1943 . وانقسم العمل إلى كتابين أطلقت على الأول :الكابتن – القاهرة - 1943-1963 واحتوى على اثني عشر فصلا . والكتاب الثاني اطلقت عليه : المنفى 1963- 1982 واحتوى كذلك على اثني عشر فصلا , وخاتمة جاءت بعنوان : أخيرا القاهرة مرة أخرى . وكتب محمد حسين يونس تعقيبا واطلق عليه : سيرة على سيرة , وصل إلى ست عشرة صفحة . واختتم العمل بالمصادر . * كاتب وإعلامي سوري مقيم في مصر