هذا الكتاب وعنوانه الأصلي( الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين بمثابة قصة حب لمصر..قصة حب تحمل في جنباتها تفاصيل حياتية عديدة لأسرة يهودية عاشت في رحاب القاهرة خلال سنوات ما قبل الثورة. حيث كانت( قاهرة عالمية) أو( كوزموبوليتانية) تضم في أرجائها أجناسا وديانات وثقافات وأطيافا مختلفة تعيش معا في حب وتسامح ووئام.. قاهرة تقبل الأخر كما هو.. فلا تحاول التدخل في شئونه.. ولا تنتهك حرمة دياناته.. ولا تتطفل علي طقوسه وعاداته.. قاهرة تعكس معها أجواء من البهجة والرخاء والنظام شد مانفتقدها هذه الأيام.. تحكي هنا المؤلفة( لوسيت لنيادو) قصة حياتها وحياة أسرتها باسلوب قصصي ممتع أكثر منه رصدا مباشرا لذكرياتها وكل تلك المشاهد الخاصة العذبة التي مازالت تحتفظ بها في مخيلتها بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة علي السواء برغم مضي كل تلك السنوات. تحكي عن أبيها( الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين) الذي عاش في بيت قديم بشارع الملكة نازلي.. كيف التقي بوالدتها وكيف عاشا معا.. ترصد بحب تفاصيل حياته.. عمله بالبورصة.. علاقاته مع أصدقائه.. خروجاته ونزهاته الليلية.. تحدثنا عن أسرته.. عن أمه الحلبية العجوز.. وإخوته وأخواته.. فتجعلنا نعيش في رفقة هذه الأسرة اليهودية ونكاد نقطن معها في قلب غرف وحجرات هذا البيت القديم الكائن بشارع الملكة نازلي والذي مازال موجودا إلي يومنا هذا.. ومع هذا الرصد البديع الذي تقدمه الكاتبة نتعرف في الوقت نفسه عن قرب علي حياة العائلات اليهودية التي كانت تعيش في القاهرة خلال تلك السنوات وتنعم بدفء استقرارها وأمانها.. إذ عاش بمصر في هذه الحقبة أكثر من80 ألف يهودي, كما عاش بها مليون أوروبي من الفرنسيين والايطاليين والسويسريين والبلجيك والأمريكيين وفي مقدمتهم الإنجليز.. عاش أثرياء اليهود في فيلات فاخرة بجاردن سيتي والزمالك كما عاش فقراؤهم في حارات صغيرة( حارة اليهود), أما الطبقة الوسطي فكانت تقطن غمرة والسكاكيني.. فصول( الرواية) تضم في سطورها أيضا مشاعر وإحساسات بريئة نقية للكاتبة التي أحبت والدها وكانت بمثابة صديقة مقربة إليه.. فكانت برغم طفولتها وسنواتها القليلة تصاحبه حينما يخرج مع اصدقائه.. تنعم برعايته الخاصة حينما تمرض.. تحدثه وتدردش معه في شئونها وأحوالها. واحتفظت لوسيت( لولو) كما كانت تناديها الأسرة في ذاكرتها بتلك الصرخة المدوية التي أطلقها والدها وهم علي ظهر المركب التي أقلعت بهم من الاسكندرية حيث المغادرة بلا عودة..( رجعوني مصر) قذف بها الأب من أعماق قلبه في حزن وهلع معا.. هاهو يغادر رغما عنه بلده وأرضه وناسه وذكرياته.. هاهو يولي ظهره لمصر.. ذلك البلد الذي أحبه وعاش في رحابه سعيدا وآمنا.. وأبدا لم يستطع في يوم من الأيام أن ينساه إذ ظل محتفظا في نيويورك حيث عاش بعد ذلك بحقيبة سفر في غرفة المعيشة علي أمل أن يعود يوما إلي شارع الملكة نازلي(!) أي حب عميق هذا؟! ينقسم الكتاب الي جزءين, حيث يرصد الجزء الأول منه حياة هذه الأسرة اليهودية في القاهرة إلي أن غادرتها في ربيع عام1963, أما الجزء الثاني فيكمل حكايتها في المنفي حيث عاشت في باريس ثم نيويورك, والكاتبة التي آلت علي نفسها مسئولية تسجيل شهادتها, ربما من فرط حبها لوالدها وأيضا لتعلقهما بمصر عادت مرة أخري إلي القاهرة عام2005 وذهبت ثانية الي شارع الملكة نازلي ودلفت إلي ذلك المنزل القديم الذي عاشت في أرجائه وهي طفلة صغيرة وأطلت من شرفته لتتدفق ذكرياتها العزيزة ومعها تلبي أمنية غالية كثيرا ما راودت أباها ولم يستطع أبدا أن يحققها.. علي صعيد آخر.. وعلي نفس الخط الموازي لسيرة( لوسيت), يعرض لنا المفكر والروائي المصري محمد حسين يونس لنشأته وحياته حيث ولد بالقاهرة عام1940 وعاش في أرجاء حي السكاكيني بالظاهر, وعاصر في طفولته تلك الأجواء الآمنة التي كانت تنعم بها القاهرة آنذاك. لم يكن بمقدور أحد علي حد كلماته أن يفرق بين السكان من حيث ديانتهم أو ملابسهم أو عاداتهم أو طعامهم. كان النسيج واحدا ومتماسكا ومتناغما.. التفاصيل العديدة التي تعرض لها الكاتبة تشبه كثيرا تلك التي صادفها يونس في حياته.. فشهادته هي نوع من المصداقية لشهادتها الحية.. صدر الكتاب عن دار الطناني للنشر.