صدمني بشِدَّة ذلك الموقف الذي أبداه بعض النُّشطاء الإسلاميِّين، الذين التقيتُ بهم مؤخرًا في إحدى جلسات الحوار بالعاصمة المصرية "القاهرة"، حيث ردَّد هؤلاء مجددًا ما كان قد تحدَّث به آخرون منذ أكثر من عامين، وفي أعقاب نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م في إسقاط الرئيس المصري السابق "حسني مبارك"، والذي تركَّز حول أفضلية ألا يخوض الإسلاميون معركة الرئاسة في الوقت الحالي، وأن الأولى بهم جميعًا هو الانتظار لتبصُّر ما يمكن أن تُسفر عنه الأيام المقبلة، فينظرون ماذا يفعل غيرهم من التيارات الفكرية والسياسية الأخرى في مواجهة التحديات الجسيمة والمُشكلات الكبيرة التي تعيشها البلاد على مختلف المستويات السياسية (خارجيًّا وداخليًّا) والاقتصادية والأمنية والاجتماعية. وهو النهج الذي تبنَّته الحركة الإسلاميةُ بمختلف أطيافها بادئَ الأمر، فأعلنت جميعها أنها لا تَعتزم خوضَ الانتخابات الرئاسيَّة، فيما أكدت مرارًا أنها لن تخوض الانتخابات البرلمانية بكامل قدراتها؛ لأنها لا تستهدف الاستحواذ على مقاعد البرلمان، فتعطي الفرصة للمشاركة مع آخرين من خارجها، وهو ما استقبلتْه التيَّارات الأخرى بكل ترحيب؛ انطلاقًا من إدراكها ووعيها الكامل بأنها لا تملتك من الشعبية ما يؤهلها للدخول في منافسة حقيقية مع أبناء الحركة الإسلامية، ومِن ثَمَّ فإن مسألة حضورها البرلماني مرهون بالمساحة التي يمكن للحركة أن تمنحها إياها. ولا شكَّ أن هذا القرار أسفر عن حالة من الاستياء في أوساط الكثير من الإسلاميين الذين استشعروا أنهم وكأنهم ناقصو الخبرة والتجربة، أو أن ما حاول النظام السابق أن يلصقه بهم من اتهامهم بالإرهاب وَجد له صدًى في نفوس أبناء الحركة الإسلامية أنفسهم، فحَرَموا أنفسهم من التمتع بحقِّهم كمواطنين من الدرجة الأولى، مثلهم مثل باقي أبناء التيارات الفكرية والسياسية الأخرى، الذين يحق لهم خوض الانتخابات على كل المواقع السياسية في البلاد، وهو ما دفع في نهاية الأمر وبعد شهور قليلة من هذا القرار الخاطئ بعضَ الحركات الإسلامية إلى أن تراجع نفسها وتُقرِّر خوض المعركة الانتخابية، سواء في البرلمان الذي حققت الأغلبية فيه، أو على موقع الرئاسة لتفوز بها أيضًا. والموضوعية تقتضي الإشارة إلى أن القائلين بأولوية تنحي الإسلاميين في المرحلة السابقة عن تصدر المشهد السياسي يستندون في صحة ما ذهبوا إليه إلى سببين: الأول: تلك الحالة من التعثر الشديد التي يعانيها - وما زال - الإسلاميون الذين قدِّر لهم الوصول للحكم في بعض بلدان الربيع العربي - وخاصة في مصر- حيث يواجه الإخوان المسلمون وحزبهم "الحرية والعدالة" حربًا ضَروسًا من الفرقاء السياسيين، فضلًا عن سوء توفيق في التعاطي مع العديد من الملفات، ما أثار حالة من الاحتقان ضدهم وضد ما يطرحونه من مشروع النهضة، ومن ثَمَّ - ووَفْق رؤية هؤلاء - كان وصول الإخوان للحكم سببًا لتنامي الاحتقان الشعبي ضدهم وضد المشروع الإسلامي بجملته، فيما منح ذلك المعارضين والمخالفين للإسلاميين مساحةً أكبر من التأييد والقبول الشعبي. لكن وعلى الرغم من أن رؤية هؤلاء ربما تنطلق من حُسن النية والغيرة على المشروع الإسلامي وحامليه، إلا أنها وقعت وبشكل واضح في خطأ جسيم؛ إذ حملت هذه الرُّؤية معنى خطيرًا للغاية، فبدت وكأنها تشكيك من هؤلاء في مدى قدرة المشروع الإسلامي والإسلاميين على تحمل المسؤولية في أحلَكِ الأوقات، وهي نظرة ظالمة، تجاهلت أن عبقرية الطرح الإسلامي تتمثل في إمكانية تعاطيه مع كل المشكلات الحياتية؛ سياسية كانت أو اقتصادية، أو حتى أمنية، فهو - وكما أشرنا مرارًا - ليس شعارات جوفاء وعبارات منمَّقة ملفوفة في ورق "سلوفان" لا نرفعها أو نرددها إلا في أوقات الدعة والراحة، أو للاستهلاك المحلي، أو عند التنافس السياسي، ولكنه مشروع يستند لمرجعية ربانيَّة قادرة على طرح حلول لأصعب المشكلات في كل الأزمان والأماكن. كذلك فقد تجاهلت هذه الرؤية أن الإسلاميين جميعهم لهم حقُّ النصح والتوجيه، بل والنقد أيضًا لأي طرف إسلامي تَمكَّن من الجلوس على كرسي الحكم، وهو مَنوط بكل من يرى في نفسه القدرة على ذلك؛ اتساقًا مع القاعدة التي رسخها خطابُ الخليفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما بايعه الناس خليفةً للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث خطب فيهم فقال: "أما بعدُ أيها الناس، فإني قد وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أخطأت فقوِّموني، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ألاَ إن الضعيف فيكم هو القوي عندنا حتى نأخذ له بحقه، والقوي فيكم ضعيف عندنا حتى نأخذ الحق منه طائعًا أو كارهًا، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيتُه فلا طاعةَ لي عليكم". ولا يعني ذلك إلا أن هناك مساحة اختلافية يمكن أن تتباين فيها آراء المسلمين، فيُعبر من خلالها كل منهم عن رؤيته وقناعاته دون المساس بالثوابت التي يتفق عليها الجميع، وعليه؛ فإنه ليس لأي طرف من الإسلاميين أن يدعي أن كل ما يقول به أو يطرحه أو يسلكه مما لا يمكن الاختلاف حوله، ما دام كان ضمن مساحة الاجتهاد؛ ليكون الفيصل في هذه الحالة قوة الدليل والتناغم مع الثوابت الإسلامية، وهو ما يمنح الجميع حق التعقيب والتعليق على ما يمارسه طرف السلطة، إما إيجابًا فيدعم السلطة ويساندها، وإما سلبًا فيسقط عن كاهل الإسلاميين عبء تجريحهم جميعًا باعتبارهم قد خرجوا عن أبجديات مشروعهم. الثاني: يرى هؤلاء أن الوقت لم يكن مناسبًا للإسلاميين للمنافسة على السلطة، فالولايات المتحدةالأمريكية تستشعر حالة قصوى من التخوف من الإسلاميين الذين يناصبونها العداءَ، وعليه؛ فإنها إمَّا أنها ستتخذ منهم موقفًا معاديًا تسعى في ظلِّه لإفشالهم، أو أنها ستعمل على احتوائهم وإجبارهم على التخلي عن الكثير من سمات المشروع الإسلامي. وهنا أراني مدفوعًا لسؤال هؤلاء: ومتى يمكن أن تقبل أمريكا بوصول الإسلاميين للحكم في أي بلد عربي أو إسلامي؟! إنه مما لا شك فيه أن الموقف الأمريكي من الإسلاميين هو موقف ثابت واستراتيجي، ينطلق من فلسفة صراع الحضارات ومبدأ نهاية التاريخ، وبالتالي فإن مسألة وصول الإسلاميين للحكم لن يكون أبدًا وَفق هواها. كذلك.. كيف لنا أن نقبل مثل هذا الطرح من إسلاميين يفترض أن تحرُّكَهم يخرج عن دائرة الرضا الأمريكي، أو بالأدق وفق تصورات الإسلاميين والرؤية الإسلامية التي تتحرك لصالح الإسلام والمسلمين والدعوة الإسلامية؟ إن هذه الرؤية لا تعكس إلا حالة تناقض يعيشها بعض الإسلاميين، ففي حين يتحدثون عن أهمية تحقيق الاستقلال من التبعية والانعتاق من الضغوط الأمريكية، نراهم لا يرفعون أعينهم عن أمريكا وتوجهاتها وسياساتها، فيتحركون وَفق ما تريد. ولا يعني ما سبق أننا نقصد أن طرف السلطة من الإسلاميين لا يراعي في تحركاته التصور الدقيق والكامل لموازين القوى الدولية والحركة السياسية داخل المجتمع الدولي، ولكن المقصود هو أن نُفرِّق بين الوعي بما يدور، وبين أن نكون في حالة انسحاق كامل، ستكون نتيجته الحتمية الفشلَ. وأخيرًا؛ فإننا لو سلمنا جدلًا بصحة طرح هؤلاء، فتَرَك الإسلاميون التنافس على الحكم، فكان لغيرهم الغلبة واليد الطُّولى في الحكم، فهل كان سيسمح هؤلاء بأن يتحرك الإسلاميون بحريَّة في دعوتهم والعمل على التمكين لهم ولمشروعهم، أم أنهم كانوا سيبقون في دائرة التهميش والاستبعاد والمعاناة؟!