هذه دولة عربية جديدة يبدأ الإخوان فيها العمل السياسي من خلال حزب رسمي اختاروا له اسم "الإصلاح والتنمية"، استلهامًا للتجربة التركية مع حزب العدالة والتنمية. المولود الجديد لأحزاب الإخوان يأتي هذه المرة من رحم الجماعة الإسلامية (اللافتة التي يعمل تحتها الإخوان المسلمون بلبنان)، وبذلك يرتفع عدد الدول العربية التي يوجد فيها أحزاب رسمية للإخوان إلى الرقم عشرة من بين 15 دولة تتواجد فيها الجماعة علنًا، ومن الأهمية بمكان أن نفهم التحولات الأخيرة التي أدت بإخوان لبنان إلى اتخاذ قرار ممارسة العمل السياسي من خلال حزب رسمي، ومدى ارتباط ذلك بالجماعة الأم في مصر. بدأت الحركة الإسلامية بلبنان في التبلور بعد لجوء الدكتور مصطفى السباعي (المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا) إلى لبنان عام 1952، حيث استطاع تأصيل الفكر الإسلامي الملتزم من خلال جماعة "عباد الرحمن"، وقد تأكدت صلة هذا التيار بالجماعة الأم خلال زيارة المرشد العام للإخوان في مصر "حسن الهضيبي" وانعقاد المكتب التنفيذي لقادة الإخوان المسلمين في لبنان، ولكن الأمر استغرق عشرة سنوات حتى ظهرت "الجماعة الإسلامية" بشكل رسمي، حيث افتتحت مركزها في بيروت، وأصدرت مجلة "الشهاب"، وكان أول أمين عام للجماعة هو الأستاذ فتحي يكن، أما في الإطار السياسي فقد أضحت الجماعة الإسلامية أحد العناصر المهمة في الشأن اللبناني، ففي عام 1972 باشرت الجماعة أول تجربة انتخابية نيابية من خلال ترشيح المحامي "محمد علي ضناوي" في مدينة طرابلس، ولم يكن الهدف من عملية الترشيح هو المكسب بقدر ما كان المقصد هو ممارسة اتصال جماهيري واسع بالناس عبر طرح وجهة النظر الإسلامية في الأحداث الجارية، وعندما بدأ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 كان المشروع السياسي للجماعة الإسلامية قد اتضحت معالمه، وكان لتماسك القوى الإسلامية اللبنانية الجنوبية في وجه الاحتلال أثره الواضح في إطلاق مشروعها السياسي، ويذكر التاريخ دائمًا أن أول صدام مسلح خاضه اثنان من شباب الجماعة في صيدا مع دورية للعملاء هو الذي أطلق مشاعر الجماهير، وأدى إلى سلسلة من المواجهات مع قوات الاحتلال، وتلا ذلك استمرار الممارسة السياسية والمشاركة في البرلمان حتى يومنا هذا. ولعل ما يؤكد وصول "الجماعة الإسلامية" لمرحلة النضج حاليًا ما تم في انتخاباتها الداخلية خلال الأسابيع الماضية، والتي أسفرت عن انتخاب "إبراهيم المصري" في منصب الأمين العام الثالث للجماعة، ليخلف القاضي "فيصل مولوي"، وكان "المصري" البالغ من العمر 73 عامًا من بين الموقعين الخمسة على الطلب الذي تقدمت به الجماعة إلى الدولة للحصول على ترخيص رسمي للحزب، تولى مسؤوليات قيادية عدة، منها رئاسة المكتب السياسي، ونيابة الأمين العام، إلى كونه يرأس تحرير مجلة "الأمان" الأسبوعية الناطقة باسم الجماعة، وسبق أن شارك في تحرير مجلة "المجتمع" الأسبوعية اللبنانية ومجلة "الشهاب". التعديلات الأبرز في البناء الداخلي للإخوان المسلمين بلبنان والتي تمثل خطوة واضحة نحو التطوير هي تحديد مدة ولاية الأمين العام الجديد بثلاثة أعوام، بدلاًً من أربعة كما كان في السابق، إضافة إلى عدم شغل المنصب أكثر من دورتين، كما شملت الانتخابات تغييرات عديدة في المناصب القيادية الرئيسية: الأمين العام، ونائب الأمين العام، وأعضاء ورئيس مجلس الشورى، والمكتب العام، إلى جانب تشكيل المكاتب الإدارية في المحافظات. نأتي الآن للحزب السياسي الذي أعلنت عنه الجماعة الإسلامية ليكون بمثابة الذراع الرديف الذي يتولى إدارة ومتابعة الشؤون الوطنية والسياسية والانتخابية، فيما تبقى "الجماعة" برمزيتها وحضورها إطاراً للعمل الإسلامي والدعوي والإرشادي، حيث يجري حالياً وضع الخطوط العريضة لمبادئ الحزب وتوجهاته، التي وإن كانت تستلهم فكر الجماعة وأطروحاتها السياسية المعتدلة في الشأن الوطني، إلا أنها ستكون أكثر ليبرالية في التعامل مع الشأن الوطني بقيم وطنية لا تتعارض مع توجهات الجماعة، من خلال استلهام تجارب سياسية أثبتت نجاحها على الصعيد اللبناني وخصوصاً "تيار المستقبل" الذي تمكن على الرغم من طابعه السني في العبور إلى مناطق مسيحية عدة سواء في الشمال وبيروت والبقاع وجبل لبنان واستقطاب العديد من الرموز المسيحية، ويمكن أن يؤدي أي تراجع في وضع "تيار المستقبل" الشعبي والسياسي على المدى الطويل إلى صعود "الجماعة الإسلامية" إلى سدة القيادة في الطائفة الإسلامية السنية باعتبارها من المجموعة الأكثر تماسكاً في لبنان. وتبقى دائما الأسئلة الأكثر إلحاحًا على الساحة اللبنانية، والتي تمثل التحدي الأكبر لحزب الإصلاح والتنمية، وأولها إعادة العلاقة مع "حزب الله" إلى سابق عهدها، بعد التوتر الأخير الذي جاء على خلفية اجتياح بيروت، وهو ما ولد احتقاناًً سنياً عاماً ضد الحزب، وزادت عزلته في الأوساط الحركية الإسلامية ومن بينها "الجماعة". وعلى جانب آخر، هل ستتمكن "الجماعة" من بلورة خطاب يوازن بين "الإسلامية"، بما تعنيه من أيديولوجيا دينية وهوية ثقافية وفكرية، وبما يشمل أيضاً العلاقة المفترضة مع "التنظيم الدولي للإخوان" من جهة، وبين مقتضيات الواقع اللبناني الوطني القائم على التعددية والتنوع والهواجس المتبادلة من جهة ثانية؟، وقبل كل ذلك وبعده هل سيتمكن الحزب الجديد من العبور بالتنظيم إلى مرحلة أكثر فاعلية وحضوراً ومشاركة؟ وهل يمكن لحزب الإخوان الجديد أن يسير على خطى حزب العدالة والتنمية التركي ويضرب المثل في التعايش والتكيف مع الأوضاع المعقدة؟... هذا ما سوف تجيب عنه الأيام القادمة. [email protected]