لا أظن أن هناك من يجادل في أن قضية الاستقلال من التبعية السياسية والاقتصادية كان أحد أهم الدوافع الرئيسية لثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، حيث كان يتطلع المصريون - وما زالوا – إلى نظام سياسي يمتلك القدرة والإرادة السياسية التي بهما يمكن أن يحقق النهضة الشاملة بعيدًا عن القيود والعقبات التي اصطنعتها القوى الإمبريالية التي تدرك جيدًا أن انعتاق مصر من حالتها الراهنة هو البداية لانبعاث الأمة العربية والإسلامية وتجاوزها لكبوتها الأمر الذي يمثل خطرًا حقيقيًا على المستويات السياسية والاقتصاية والثقافية لهذه القوى. وبعيدًا عن استخدام مصطلح "صراع الحضارات" الذي صكه الكاتب والمفكر الأمريكي صموئيل هنتجتون لما له من انطباع سيئ وسلبي في نفوس البعض سواء في منطقتنا أو في الغرب فإن الحقيقة التي يجب أن نراها جيدًا كما يراها الآخرون هو أن ثمة تنافسًا حضاريًا قائمًا بالفعل وسيظل قائمًا إلى الأبد في إطار ما يسمى بعملية انتقال الحضارة من أمة إلى أمة وفق التزام كل أمة من هذه الأمم بعوامل النهضة البناء الحضاري وهو ما يحلو لبعض مفكرينا من المسلمين أن يسميه ب"دورة الحضارة". والحقيقة الثانية أن الشعب المصري في كل خطواته على المستوى السياسي كان يتحرك دائمًا انطلاقًا مما ترسخ في وعيه وذهنه وقلبه من أن عملية الابتعاث الحضاري لا يمكن أن تحدث إلا على أيدي من يحرصون وبشكل جديّ وعملي وسريع للتخلص من التبعية التي فرضت على مصر طيلة العقود الماضية ليس على المستوى المادي فحسب بل وعلى المستوى الثقافي والفكري أيضًا فقد كانت أحد أهم النكبات التي منيت بها أغلب بلدان الأمة العربية والإسلامية ومن بينها مصر هو انسحاق أنظمتها السياسية المتعاقبة أمام نظريات سياسية وفكرية غربية أفرزتها عقول غربية وترعرعت في بيئة غربية تختلف في كثير من ملامحها عن البيئة العربية والإسلامية مما سبب صدمة شديدة كانت من أهم نتائجها تلم الحالة من الترنح التي تعيشها الأمة في وقتنا الراهن. انطلاقًا من هذا فقد ميزت الجماهير بين نوعين من الداعين للاستقلال بين هؤلاء الذين يرفعون شعارات النهضة والقومية والبناء في وقت يصرون فيه على تحقيق ذلك من خلال تبنيهم لرؤى ونظريات الآخرين وبين هؤلاء الذين يطمحون لنهضة الأمة واستعادة مجدها وتلبية آمال شعوبها وفق رؤية تستند إلى أهم ما تعتز به الأمة وتنطلق في ذات الوقت من قيم ومبادئ ارتضاها لهم خالق الكون والأعلم بما يصلحه. ولعل النموذج الناصري الأوضح والأبرز في هذا المجال إذ لا يمكن أن يشكك أحد في رغبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في تحقيق الاستقلال لكنه وبكل أسف سعى لتحقيق استقلاله عن المعسكر الغربي بقيادة أمريكا ليقع في فخ الموالاة للمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي بعد أن تبنى الاشتراكية منهجًا سياسيًا واقتصاديًا بغض النظر عن ادعاءاته المتكررة وهو وبعض رموز نظامه من أن الاشتراكية المصرية تختلف عن الاشتراكية السوفيتية ومن ثم فإن عبد الناصر لم يستطع أن يحقق آمالًا وتطلعات المصريين في الاستقلال بل إن مشروعه سقط سقوطًا مدويًا بعد أن ارتكب العديد من الخطايا السياسية كان أفدحها مذبحة الديمقراطية في البلاد. كذلك فقد كان في وعي الجماهير أن الرهان على هذا الاختيار سيصحبه الكثير من العناء والمشقة وسيفرض عليهم تقديم المزيد من التضحيات فالرضا الغربي والسير في ركابه ربما يضمن الحد الأدنى من البقاء والوجود المادي لكنه في النهاية لن يحقق النهوض والانطلاق كون أن المنظومة الغربية النفعية المتسلطة العنصرية الاستعمارية لا يمكنها أن تتعاطى مع البشر عمومًا ومع الشرق العربي والإسلامي خاصة إلا باعتبارهم كالبقرة الحلوب التي يتم حلبها ليل نهار وليس لها إلا أن تطعم وتسقى دون أن تتطلع لما هو أعلى من ذلك أما محاولة الفكاك الثقافي والفكري فهو وبلا مبالغة بمثابة إعلان الحرب التي لن يتردد الغرب في أن يستخدم كل أسلحته المشروعة وغير المشروعة من أجل الانتصار فيها إذ أن نجاح أية محاولة للأمة للنهضة تعني انهيار آخر حائط صد ضد أن يكتسح الإسلام المجتمعات الأوروبية وتتحول بين عشية وضحاها لما ظلت تتخوف منه طيلة القرون الفائتة. ومن هنا فإن من الأمور المحيرة هو ما شهدته العاصمة المصرية القاهرة مؤخرًا من استضافة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري وهي الزيارة التي تأتي بعد أيام قليلة من توليه لمنصب الوزارة وبالطبع ليس دافع الحيرة والدهشة هو الزيارة في حد ذاتها فهذا ربما يكون من الأمور الدبلوماسية المتعارف عليها لكن الحيرة الحقيقية تكمن في تحركات كيري داخل البلاد وعلى رأسها تلك اللقاءات التي عقدها مع بعض الشخصيات المحسوبة على المعارضة فضلًا عن تلك البيانات والتصريحات التي أدلى بها والتي لا تعطي إلا معنًى واحد هو استمرار التدخل الأمريكي في الشأن المصري الداخلي والسماح لواشنطن أن تكون لاعبًا أساسيًا في الحياة السياسية المصرية حتى لو كان ما صرح به كيري عكس هذا. وبالطبع كما تتحمل المعارضة المتطرفة أو ما يسمى بجبهة الإنقاذ الوطني المسئولية عن هذا السلوك الأمريكي وهذا التدخل الفج ذلك كون أن التصعيد الدائم ضد النظام وتوسيع درجة العنف ضد مؤسسات الدولة هو من فتح الباب لأمريكا ولغيرها بالتدخل فإن النظام المصري بقيادة الدكتور محمد مرسي يتحمل أيضًا جزءًا من هذه المسئولية فالدكتور مرسي وهو رأس السلطة والنظام في البلاد الآن مطالب بأن يحفظ الحد الأدنى من سيادة البلاد وأن يبعث برسالة قوية للجميع مفادها أن الجدل أو الخلاف السياسي في مصر هو شأن داخلي ليس إلا للمصريين التعامل معه وهو ما يقطع الطريق على هذا الاستقطاب الحاد داخل الشارع المصري والذي يعلم الجميع أن التدخل الأجنبي وما يصحبه من تمويل مالي ضخم هو أحد أهم عوامل تأجيجه. إن المشروع الإسلامي لن يكتب له النجاح مطلقًا في ظل مراهنات وحسابات أبعد ما تكون عن أصوله وجوهره وإلا حمل بين طياته تناقضات ستجعل الفشل أقرب منه إلى النجاح.