قبل أسابيع قليلة ارتفعت أصوات كثيرين (مؤيدين ومعارضين) تطالب بفتح باب القيد في جداول الانتخابات لفترة استثنائية لإتاحة الفرصة أمام الملايين من الذين يجدوا حماساً للقيد في هذه الجداول في مراحل سابقة، ولم يشاركوا في الاستفتاءات أو الانتخابات قبل ذلك. اعتقادا بأن أصواتهم لن تقدم أو تؤخر في انتخابات نتيجتها معروفة سلفا. ثم جاءت مبادرة الرئيس مبارك بطلب تعديل المادة 76 من الدستور ليكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب الحر المباشر عن طريق الاقتراع السري بين أكثر من مرشح لتعيد صياغة المشهد السياسي وتفتح أبواباً للأمل في تغير حقيقي نحو نظام ديمقراطي تستحقه مصر وتستطيع إرساء قواعده بلا أدنى شك. وفي الأجواء الحماسية بعد قرار الرئيس مبارك جاء طلب إعادة فتح باب القيد في جداول الانتخاب لفترة استثنائية حتى ولو كان ذلك بعد إجراء الاستفتاء ليتمكن الجميع من المشاركة في اختيار رئيس الجمهورية في أول انتخابات تجرى لهذا الموقع بعد شهور. ولكن تعذر تلبية هذا المطلب لضيق الوقت وعدم توافر الإمكانيات لذلك. ثم لانشغال الجميع بالتطورات التي حدثت بعد ذلك والتي أدت إلى صراع سياسي حاد بين المعارضة والموالاة حول الضوابط التي تنظم عملية انتخاب رئيس الجمهورية، وحول شروط الترشيح، وحول مجمل التعديل للمادة الشهيرة رقم 76من الدستور. هذا الصراع الذي انتهى لدعوة أحزاب المعارضة الرئيسية لمقاطعة الاستفتاء، وإلى إنهاء الحوار بينها وبين الحزب الوطني الحاكم، وإلى احتقان شديد في الحياة السياسية المصرية في ظل ظروف بالغة الدقة محليا وإقليمياً وعالميا. حل المشكلة، سهلا ومتاحا لو خلصت النوايا، ولو تم استغلال المناخ الجيد الذي كان يسود العلاقة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة الرئيسية المشتبكة منذ شهور في حوار طويل، كان من الممكن أن يقتصر التعديل الدستوري للمادة 76 على المبادئ العامة وأن تترك التفاصيل لقانون خاص يحكم انتخابات الرئاسة هذه المرة على أن تخضع للمراجعة بعد ذلك في إطار عملية مراجعة شاملة وواجبة للدستور والقوانين المكملة له في المرحلة المقبلة. لكن كان هناك إصرار من الحزب الحاكم على وضع التعديلات بتفاصيلها في صلب الدستور لتصبح المادة 76 المعدلة أطول مواد الدستور وواحدة من أطول المواد في دساتير العالم، وأعطى هذا الإصرار مؤشرا لأحزاب المعارضة على أن وضع هذه المادة في الدستور جاء ليغلق باب التعديلات الدستورية الأخرى، كما زاد من خشيتها أن تلقى التعديلات المطلوبة والمتفق عليها على قوانين الأحزاب والانتخابات والحقوق السياسية مصيرا مشابها تتغلب فيه رؤية فريق واحد (هو الحزب الحاكم) ويتم فيه إهدار الفرصة لإصلاحات حقيقية. وحتى بعد الإصرار على طرح المادة 76 المعدلة بصورتها التي أقرها مجلس الشعب للاستفتاء، كان من الممكن الوصول إلى حل وسط يقضى بأن يكون الاستفتاء على سؤالين بدلا من سؤال واحد. بحيث يكون السؤال الأول حول مبدأ اختيار الرئيس بالانتخاب المباشر، ويكون السؤال الثاني حول نص المادة المعدلة.والآن.. يثور التساؤل: ما العمل؟ وكيف نتفادى تصاعد الموقف ونبدد أجواء الأزمة ونعيد الحياة إلى الحوار الوطني المسؤول حول القضايا المصيرية؟. الحزب الوطني يراهن على أنه قادر في المرحلة المقبلة على تغيير الأجواء بإصدار القوانين المعدلة للأحزاب والانتخابات والحقوق السياسية واستغلال قوة الدفع لخوض معركة الرئاسة وبعدها انتخابات مجلس الشعب مستغلا ارتباك أحزاب المعارضة وقلة إمكانياتها، خاصة أن الاقتراحات الخاصة باعتماد نظام القوائم النسبية أو الجمع بينه وبين النظام الفردي هى اقتراحات مؤجلة لما بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة. والمعارضة من جانبها تدرك أن فرصتها في الانتخابات الرئاسية المقبلة منعدمة، وأن فرصتها في انتخابات مجلس الشعب لن تكون كبيرة، في ظل ضعف الإمكانيات وآثار سنوات من الحصار المضروب عليها، والتماهي بين الحزب الحاكم والإدارة الحكومية.والأخطر من ذلك كله أن أزمة عدم الثقة تزداد بين الطرفين. فالحزب الحاكم يتهم أحزاب المعارضة بأنها تقول داخل الغرف المغلقة شيئا وخارجها شيئا آخر، وأحزاب المعارضة تؤكد رفضها لنزعة الانفراد بالقرار لدى الحزب الحاكم ونظرته لها على أنها كيانات ضعيفة غاية مناها بضعة مقاعد في البرلمان لا تقدم ولا تؤخر في اتخاذ القرار. واستمرار القطيعة سيكون له أوخم الآثار في ظل شارع ملتهب وظروف دقيقة وضغوط خارجية وغياب كامل لمشروع وطني يستطيع أن يكون المظلة التي يتحرك تحتها الجميع في معركة الإصلاح والنهوض.وحتى إذا عادت الأحزاب للقاء في ظل الأوضاع الراهنة فإن مناخ عدم الثقة سيكون هو السائد، وضغوط الشارع واقتراب الانتخابات البرلمانية سوف تمنع الوصول إلى نتائج ايجابية. ومن هنا نعود إلى ما سبق أن اقترحناه لتجاوز هذا المنعطف الخطير. بإصدار قرار بتشكيل لجنة وطنية لمراجعة الدستور تنهى مهمتها خلال عام ويتم على إثرها تعديل القوانين المكملة للدستور بحيث نضمن التكافؤ في الفرص، والشفافية الكاملة في أي انتخابات تلي الانتخابات المقبلة للرياسة. وقد يكتمل ذلك كما سبق أن اقترحنا بأن يتم تأجيل انتخابات مجلس الشعب لبضعة شهور يتم خلالها إقرار التعديلات الخاصة باعتماد نظام القوائم النسبية أو النظام المشترك لكي تجرى الانتخابات المقبلة في إطاره وبذلك تطمئن أحزاب المعارضة الحقيقية على أنها ستكون متواجدة بثقل معقول داخل البرلمان وخارجه. وتبدأ مرحلة جديدة تجد فيها كل القوى السياسية المجال المتاح لحركتها من خلال الشرعية وبحكم القانون وتختفي فيه مظاهر العنف التي بدأت تطل بوجهها الكئيب في الشارع السياسي المصري... وتبقى نقطة أساسية هي أن حق الأغلبية في أن تقرر وحق الأقلية في أن تعترض مرهون بحق الوطن في أن تكون القضايا الأساسية محل توافق عام، وهذا هو التحدي الذي يفرض نفسه على الجميع في هذه المرحلة.