سؤال التخلف والتقدم كان هو السؤال المحوري الذي هيمن على المناخ الثقافي في عصر النهضة العربية الأولى بعد الصدام مع الغرب. السؤال الجوهري الذي دارت حوله المناقشات في عصر النهضة العربية الثانية في الخمسينيات بعد الاستقلال كان هو: كيف نحكم؟. والسؤال الذي يثار الآن في عصر العولمة هو: كيف يمكن التعامل معها، وكيف يمكن الحفاظ على الخصوصية الثقافية والهوية الحضارية؟. وفي تقديرنا أن الموقف الصعب الذي تجد فيه الدولة العربية المعاصرة نفسها، ليس اشتداد مطالب الداخل في مجال الديمقراطية، ولا ضغوط الخارج فقط، ولكن في كون الأسئلة الثلاثة ونعني أسئلة التقدم والحكم والهوية قد تجمعت لأول مرة في لحظة تاريخية فاصلة في تاريخ العالم وفي تاريخ الوطن العربي. ما هي أسباب الخلل؟ المناقشة تتضح بجلاء, لو قمنا بتصنيف النظم السياسية العربية حتى تبرز نوعية مشكلات الحكم فيها، وإمكانية إصلاح الأوضاع في المستقبل القريب. هناك نظم سياسية عربية تقليدية، تمارس الحكم فيها عائلات اكتسبت الشرعية من خلال الثورات أحيانا عبر مئات السنين. وهذه النظم السياسية التقليدية تمارس الحكم في بلاد لم تستكمل بعد عملية بناء الدولة الحديثة. بمعنى غياب دستور ينظم العلاقة بين الحكام والمواطنين، وينص على الحقوق والواجبات، وغياب المؤسسات التمثيلية المنتخبة، بمعنى أنه ليس هناك برلمان منتخب، وغياب وضع الفروق بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعدم وجود تشريعات حديثة تنظم أمور المجتمع في كل المجالات، وغياب مبدأ سيادة القانون. في ظل هذا الوضع ليست هناك هيئات سياسية منتخبة من حقها أن تراقب أداء الحكام، أو تسائلهم. ومن هنا فسلطة الحكم تكون مطلقة، وعملية اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي محتكرة في يد قلة تمثل أهل الحكم. وفي هذا السياق لا توجد فروق واضحة بين المال العام والمال الخاص، وذلك أن فكرة الميزانية المعتمدة التي تضعها الوزارة ويصدق عليها البرلمان، وتلتزم بها الحكومة، ليست موجودة أصلاً. من هنا شاعت ظواهر سلبية متعددة، لصيقة بهذا النوع من الحكم، وأبرزها شيوع الفساد، وسيادة مناخ القهر السياسي الذي لا يسمح للجماهير بالتعبير عن نفسها، مما أدى إلى انفجارات ثورية في بعض المراحل، تمت السيطرة عليها بصعوبة بالغة. هذه الدولة العربية التقليدية تخضع في الوقت الراهن لضغوط بالغة العنف من الداخل والخارج معا، تدعوها لبناء دولة حديثة معاصرة، وفقاً لنموذج الحداثة السياسية العالمي الذي أصبح محل إجماع الشعوب والأمم. ونعني أهمية وجود الدستور والفصل بين السلطات، ومبدأ سيادة القانون في ظل تشريعات عصرية، وإطلاق حريات التفكير والتعبير والتنظيم، والسماح بالتعددية السياسية، وبلورة نظام سياسي يسمح بتداول السلطة. غير أن الدول العربية التقليدية تقاوم كل هذه المطالب بشدة، لأن من شأن تحقيقها التغيير الكامل لطبيعة النظام السياسي الذي ساد قروناً، والذي تحددت فيه المواضع والمكانات، وترسخت فيه الأنصبة الهائلة من الدخل القومي الذي يحصل عليه أهل الحكم بغير رقيب ولا حسيب! فكيف يطالب أهل الحكم في مثل هذه الدولة العربية التقليدية إعمالا لمبدأ الشفافية والذي هو أحد أركان الحكم الرشيد والذي تدعو إليه الآن الهيئات الدولية المختلفة، أن يكشفوا عن النصيب الذي يحصلون عليه من الثروة القومية؟ وكيف يقبلون أن تراقب أعمالهم، وأن تتم المحاسبة على قراراتهم؟ نستطيع أن نفهم سر الارتباك الشديد في الدولة العربية التقليدية، والتي لا تريد إطلاقاً الخضوع لمتطلبات الدولة الحديثة وما يصاحبها من حكم رشيد. غير أن هناك نمطاً آخر من أنماط الأنظمة السياسية العربية وهو نمط الدول الثورية التي بدأت حياتها بانقلاب عسكري كما هو الحال في مصر في 23 يوليو 1952 والذي سرعان ما تحول إلى ثورة بحكم البرنامج المعلن للتغيير الاجتماعي الشامل. غير أن بعض الدول الثورية التي قامت على أساس انقلاب عسكري ظلت أسيرة الانقلاب ولم تخرج إطلاقاً إلى فضاء الثورة الشاملة. في هذه الدول أعلن عن قيام شعار جديد هو الشرعية الثورية بدلاً من شعار الشرعية الدستورية والذي كان سائداً في ظل النظم الملكية التي كانت سائدة قبل الانقلاب. والشرعية الثورية معناها ببساطة الخروج على كافة القوانين والأعراف التي تحدد العلاقات بين الناس، على أساس أن الشرعية الدستورية كانت تعمل لخدمة الطبقات المستغلة، وأنه الطريق الوحيد لتصحيح الأوضاع وتحقيق العدالة الاجتماعية التي تنقذ جماهير الشعب من الاستغلال. وإذا كانت الشرعية الثورية قد استخدمت فعلاً تاريخياً لتصحيح بعض الأوضاع الظالمة، إلا أنها فتحت الطريق في الواقع أمام مظالم من نوع جديد! ذلك أنه في غياب الالتزام الدقيق بالقانون، تم الاعتداء على حقوق متعددة للناس سياسية واقتصادية وثقافية. ومن ثم فإنه في هذا النمط من الدول العربية الثورية حيث ترسخت السلطوية، وأصبح عدم الخضوع لمبادئ القانون المعترف بها أسلوب حياة، هناك مثالب عديدة في أسلوب الحكم. ولا يمكن تحقيق الحكم الرشيد بغير تغيير شامل ليس فقط في طبيعة النظام السياسي، ولكن في النخب السياسية الحاكمة والتي تمرست على الحكم بغير ضابط ولا رابط، وأثرت على حساب الشعب، في غيبة كاملة لقواعد الشفافية والمحاسبة. هذه النخب السياسية الحاكمة هي التي تقاوم الآن بشراسة أي إصلاحات تتم المطالبة بها من الداخل، أو تدعو لها مؤسسات دولية أو حكومات أجنبية. وهذه النخب السياسية الحاكمة مثلها في ذلك مثل أهل الحكم في الدول العربية التقليدية أصابهم العمى الإدراكي الذي منعهم من القراءة الصحيحة لتحولات العالم، وحرمهم من الفهم العميق للتغيرات الجسيمة التي لحقت بالمجتمع العالمي. كان هذا هو حال النخبة السياسية العراقية في ظل الحكم الشمولي الذي قاده صدام حسين، والذي أدى في الواقع نتيجة تفاعلات شتى وحماقات سياسية بارزة إلى خراب العراق. ويمكن القول إن النخبة السياسية الحاكمة في سوريا تمر بنفس المشكلات، وتعجز عجزاً واضحاً عن التكيف مع الأوضاع العالمية الجديدة، وتقاوم التغيير، وتتلكأ في مجال الانصياع للقرارات الدولية مثلما حدث بالنسبة لتطبيق قرار مجلس الأمن في شأن الانسحاب من لبنان، إلى أن اضطروا للانصياع بعد إنذار نهائي. هل تستطيع هذه النخب السياسية الحاكمة المتجمدة أن تواكب التغيير العالمى؟ أم أنها مازالت تعتقد وهما أنها تستطيع أن تحكم بشرعية الدين أو بشرعية الثورة المزعومة وتمارس الاستبداد الطليق كما كان هو الحال في الماضي؟ إن أحكام السجن التي صدرت بحق بعض المثقفين الإصلاحيين في بعض الدول العربية التقليدية، وفي دولة عربية عقائدية تشير إلي أن أهل الحكم مازالوا يعيشون في غيبوبة الحكم المطلق! فات أوان الاستبداد أياً كانت صوره، وبدأ عصر الديمقراطية العالمية، ولن تستطيع الدولة العربية المعاصرة أن تقاوم طويلاً متطلبات الحكم الرشيد، الذي تطالب به الجماهير العربية قبل أن تدعو له الهيئات الدولية والحكومات الأجنبية. ولعل السؤال الذي ينبغي إثارته الآن هو: ما هي ردود فعل النظم السياسية العربية إزاء مطالب التغيير سواء من الداخل أو من الخارج؟ لو نظرنا إلى الدول العربية التقليدية لاكتشفنا أن مفهومها للتغيير يتناقض كلياً مع مطالب الداخل وضغوط الخارج. ذلك أن أقصى ما توصلت إليه هو تشكيل مجالس للشورى بالتعيين، ويتم اختيار الأعضاء من الموالين للحكم عادة، ولا بأس من اختيار عدد من المثقفين المستقلين لتجميل الصورة. وعادة ما يدار في هذه المجالس، سواء كانت مجالس تقليدية للشورى، أو منابر للحوار، أو مجالس حكومية لحقوق الإنسان حوار موجه لا يتاح فيه للأصوات المستقلة أن تعبر عن نفسها. أما النظم السلطوية والتي لها ماض انقلابي أو ثوري فهي لا تسير في طريق الإصلاح بالرغم من التصريحات الرسمية, ولكنها تسير في طريق ترسيخ السلطوية من خلال إجراءات ديمقراطية صوتية. وتبقى نظم عربية شمولية صريحة تدعي أنها تطبق أفضل ديمقراطية في التاريخ! وهكذا يمكن أن يضيع العالم العربي بين خداع الغير وخداع الذات!.