فى مقال له بالشروق رصد الأستاذ فهمى هويدى حشدًا من المانشتّات الصحفية تجرى على هذا النحو: "المواجهة تتصاعد.. مصر تنتظر 25 يناير.. الاحتقان يتصاعد.. ساعة المواجهة تقترب.. الغضب الساطع آت.. الألتراس يهدد بالدم.. الأقنعة السوداء تعلن: "سنحافظ على الثورة وسنتصدى".. وزير الداخلية: "أخشى من عنف يؤدى إلى انهيار الدولة".. "حرب شوارع فى الإسكندرية".. وهالَهُ ماتنطوى عليه هذه المانشتات من تهديد للأمن، واعتبره تحريضًا على حرب أهلية؛ تهيئة لإحراق البلد وإغراقه فى طوفان من الدماء.. أنا أختلف مع صديقى فهمى هويدى فى قراءته شديدة التشاؤم، ولكن ليس معنى هذا أنِّى أستهين بالأمر، أو غير مدرك لأبعاد المؤامرة التى تتصاعد وتيرتها كلما اقتربت مصر من تحقيق أهداف ثورتها وبناء مؤسساتها، والتخلص من ميراث الفساد القابع فى الإدارة والقضاء والشرطة والإعلام.. بل إننى أذهب إلى أبعد من هذا، حيث أعتقد أن منظومة الإعلام المصرية لو تمكّنت من السيطرة على الإعلام الأمريكي، لنجحت فى إشعال حرب أهلية هناك فى بضعة أشهر، وربما فى بضعة أسابيع.. ولكن هذا لن يحدث فى مصر..! لست سعيدًا إذن ولا مستهينًا ولكنى كذلك لست موغلًا فى التشاؤم لدرجة أن أتوقع فى مصر حربًا أهلية وشيكة الوقوع.. وليس فى هذا تفاؤل ساذج، وإنما هو نتيجة دراسات طويلة، واستبطان للعقلية المصرية، واستقراء عميق لتاريخ مصر فى مواجهة المِحَنِ والكوارث، فقد استطاعت مصر بفطرتها العبقرية أن ترتفع دائمًا على معضلاتها وتضمِّد جراحها، وتعود إلى حياتها الطبيعية من جديد.. قد تحدث أعمال شغب وعنف وحرائق، واعتداءات على الأرواح وتسيل دماء.. وربما تجرى اغتيالات هنا وهناك.. ولكن لن تحدث فى مصر حرب أهلية...! ولو كانت هناك الآن سلطة دكتاتورية حقيقةً -كما تزعم المعارضة والإعلام - لما وصلت مصر إلى هذه الحال من الانفلات والفوضى والسفاهات الجارية فى الصحافة والإعلام، وعلى ألسنة الحمقى فى جبهة الإنقاذ.. يجب أن نفهم أنه منذ ظهور نتائج انتخابات مجلس الشعب(2011-2012) وبروز التيار الإسلامي كاختيار أول للجماهير المسلمة، أصبح للبراليين فى مصر دور محدّدٌ فى إعاقة الثورة عن تحقيق أهدافها؛ وذلك بتجنُّبِ وصولِ الشعب إلى صناديق الانتخابات، والقضاء على كل النتائج التى أسفرت عنها.. وأهمها: مجلس الشعب (وقد تم إلغاؤه).. واللجنة الدستورية.. والدستور.. ومجلس الشورى.. والرئيس المنتخب. والغاية القُصْوَى هى اسْتئْصال الإسلاميين من الساحة السياسية نهائيًا، وإعادتهم إلى السجون والمعتقلات.. إذ يشعر اللبراليون أنه بغير هذا لا أمل لهم فى حكم مصر والسيطرة عليها.. القصة إذن محدّدة المعالم واضحة الأبعاد.. وما سيحدث فى العيد الثاني للثورة ليس إلا حلقة أكثر عنفًا ودموية- فى المسلسل [اللبرالي الأمريكيّ الصهيونييّ] الذى عبَّر عنه سناتور مارك كيرك فى خطاب قديم له أمام الكونجرس الأمريكي.. ولسوف يفشل الحشد وتفشل المؤامرة.. ولكن يحتاج الأمر إلى بعض الوقت ليقتنع قادة المعارضة أن الاستيلاء على السلطة بالعنف والغوغائية وَهْمٌ كبير، وأنه لا سبيل إلى أي تغيير فى مصر إلا من خلال صناديق الانتخابات؛ فهذه هى الحقيقة الوحيدة التى ثبتت واستقرت راسخةً فى عقلية الجماهير المصرية من مُجْمَلِ النسيج الثوري الذي مزَّقته الثورة المضادة..! لاتستهينوا بمصر فقد مرت بتاريخها كوارث وأهوال كفيلة بالقضاء على أمم أكبر منها.. اِقرأ معى بعض فقرات من مخطوط نادر أُعِدُّه حاليَّا للنشر: "سنة 156هجرية وصلت مصر إلى درجة رهيبة من الإنهاك تحت وطأة الضرائب الفادحة انتهت بمجاعة مروّعة أكل الناسُ فيها الكلابَ ولحم الآدميين.. وتألَّب الوجه البحرى والحوف الشرقى متناصريين ضد العباسيين لِما حَّل بهم من الجور، ومنعوا الخراج واتحد معهم القبط حتى قَدِمَ إليهم المأمون العباسى فى شهر محرّم سنة217ه . وأخذ يطمأنهم وأزال بعض مظالمهم. وقد صار المعتصم بعده على منهاجه.. وفى عهد المتوكِّل على الله هجم الروم على "دمياط" و"صان" وملكوهما سنة 239ه." "فى سنة 464ه حدثت مجاعة شديدة إثْرَ انصراف المترفين إلى اللهو وانغماسهم في الشهوات.. وتشتت شمل الجيش المصري في الوجه البحري.. فأخذ يعيث في الأرض فسادًا، واشتعل الغلاء حتى بلغ ثمن إردب القمح مائة دينار والكلب خمسة دنانير والقطة ثلاثة [اضطر الناس لأكل القطط والكلاب من شدة الجوع].. وكان الأغنياء قد ادخروا القوت الذى عز على الفقراء فأنذرهم والِى القاهره فأبرزوا ما كانوا يدخرون.." "بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي خلف من بعده ولده "العزيز" الذى أباح شرب الخمر فتدهورت الأخلاق وعم الفجور والفوضى واحتج العقلاء على هذه الحال حتى باغتهم الله بمجاعة شديدة.. وصفها عبد اللطيف البغدادي وصفًا دقيقًا فى رحلته سنة 597ه بأنها أكبر مجاعة حدثت فى مصر إذ هجم الناس على قصر الخليفة وسلبوه ثم أكلوا الميتة والكلاب وبنى آدم.. وعوقبت ثلاثون امرأة بالحرق لاعترافهن بأكل الأطفال والنساء." "وبانتهاء المجاعة عادت الحروب الصليبية سنة 598ه ودخل الإفرنج دمياط وشمال الوجه البحري.. وقامت البلاد عن بكرة أبيها تسترد كرامتها.. وأسست المنصورة سنة 616ه لتكون معسكرًا لصد هجمات الصليبيين بعد أن تم تخريب صان.. ثم عاد الصليبيون بإيعاز بعض الخونة المصريين من أمثال الجواد بن يونس.. جاء الصليبيون فى خمسين ألف مقاتل يقودهم لويس التاسع.. فاستعد الملك الصالح للقائه مستفزًا قبائل الغربية والشرقية.. ومات هذا الملك سنة 647ه وأخفت زوجه شجرة الدر نعيه حتى فتك المصريون بثلاثين ألف جندي من الإفرنج فى منطقتنا (ضواحي المنصورة) وأسروا الملك لويس التاسع وسجنوه في دار بن لقمان بجوار مسجد الموافي بالمنصورة.." وهكذا تمضى المخطوطة الرائعة المروعة ترصد الحروب والمظالم والكوارث التى تعرضت لها مصر، وتصف المجاعات والأوبئة الفتاكة التى حصدت أرواح المصريين، سنة بعد سنة.. فى سجل مذهل: ففي سنة 1028ه انتشر الوباء وفتك بالناس فتكًا ذريعًا حتى بلغ عدد الهالكين زهاء ثلث مليون.. ثم عاد الوباء سنة 1035ه مضاعفًا وأهلك كثيرًا من الرجال.. وهكذا تتكرر المآسي على مصر في سنوات متتالية: سنة1040ه، وفي طاعون سنة 1141ه. وسنة 1181ه. وفي سنة 1196ه. حيث تفاقمت الصرائب وخربت المنازل وأقفرت الديار واختلَّ الأمن.. وأقبلت مجاعة شديدة أكل الناس فيها الموتى.. لولا أن تداركهم الله بالغلال من الشام.. ثم عاد الوباء والطاعون والجوع حتى كان متوسط الهالكين في [قرية بهوت] وحدها 50 نفسًا كل يوم.. وهُجِرت الزراعة وأقفرت البلاد وعمَّها الفساد.. وخرب الريف الذى لم يبق فيه سوى بعض الأوانى النحاسية وقليل من الحُلِيّ الفضية وفئة قليلة من الفتيان ضعاف البنية من الجوع والرَّوْع الذى حل بالبلاد والعباد.." صحيح أن زمن المجاعات والأوبئة قد انتهى.. وانقضى أيضًا زمن الغزوات الصليبية والمغولية.. وأصبح الاحتلال الأجنبي المباشر لمصر خبرًا من أخبار التاريخ.. ولكننا نشهد اليوم فلولًا وشراذم من القيادات السياسية الموتورة.. وجماعات من البلطجية المستأجرين، والألتراس المخدوعين؛ يقطعون الطرق ويجوسون فى مصر فسادًا وتخريبًا.. صوّر لهم الإعلام المأجور وقياداتهم السياسية أنهم ينقذون ثورة ويصنعون بطولات وهمية بتخريبهم للمرافق والمباني وحرق المحاكم وتعطيل المرور وقطع الطرقات.. وإراقة الدماء.. وما هكذا كانت الثورة المصرية الحقيقية التى يتمسح بها اللبراليون زيفًا وتضليلًا.. إنما هي ثورة مضادة بكل أبعادها وملامحها القبيحة.. قامت على بثِّ الكراهية والأحقاد والضغينة والأنانية.. بدلًا من قيم المحبة والإخاء والتضحية بالمصالح الشخصية من أجل هدف وطني مشترك.. أعرف أن بعض السفهاء الحاقدين يحلمون بإشعال حرب أهلية على غرار ما حدث في لبنان وقد ذهب أبو حامد هناك ليتعلّم من مثله الأعلى سمير جعجع شيئًا ينقله إلى مصر..! نعم.. ستجد فى مصر نماذج موغلة فى الشذوذ من السفهاء، والأفّاقين.. وستصادف خناقات تنشب بين جماعات متنازعة، وحوادث قتل فى ثارات قبلية سرعان ما تنتهى فى المحاكم أو فى مجالس صلح.. ستجد اغتيالات فردية متناثرة فى تاريخها.. ولكنك -أبدًا- لن تجد فى مصر حربًا أهلية لا فى الماضى ولا فى المستقبل.. كأنما قد كتب الله فى سابق أقداره أن هذه البلاد قد لقيت مايكفيها من البلاء والكوارث فحصّنها من الحروب الأهلية.. بقيت نقطة واحدة فى إطار هذا الموضوع تحتاج إلى دراسة مستقلة تجيب عن هذه الأسئلة: من هم الألتراس..؟ ماهي تركيبتهم النفسية..؟ وكيف تم اختراقهم وتهييجهم.. وغوايتهم للقيام بأعمال عنف وشغب وغوغائية، وتقديمهم وقودًا لحرب أهلية مُتَخَيَّلَة، تحت شعارات ضبابية..؟! [email protected]