وزير الخارجية: إسرائيل تتحمل مسئولية ما آلت إليه أوضاع المنطقة من دمار    وزير الخارجية: الاحتلال يستخدم التجويع والحصار كسلاح ضد الفلسطينيين لتدمير غزة وطرد أهلها    جيش الإحتلال يزعم اغتيال قائد الوحدة الصاروخية لحزب الله في جنوب لبنان ونائبه    المثلوثي: ركلة الجزاء كانت اللحظة الأصعب.. ونعد جمهور الزمالك بمزيد من الألقاب    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    صحة الإسكندرية تشارك في ماراثون الاحتفال باليوم العالمي للصم والبكم    من الأطباء إلى أولياء الأمور.. «روشتة وقائية» لعام دراسي بلا أمراض    حياة كريمة توزع 3 ألاف كرتونة مواد غذائية للأولى بالرعاية بكفر الشيخ    ارتفاع أسعار النفط عقب ضربة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت    بمقدم 50 ألف جنيه.. بدء التقديم على 137 وحدة سكنية في مدينة 6 أكتوبر غدا    25 % من ثروتها العقارية.. من يحمي «مال الله» في مصر؟!    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    الوكيل: بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل الثاني بمحطة الضبعة (صور)    رويترز: فقدان الاتصال مع قادة الحزب بعد ضربة الضاحية الجنوبية    جيش الاحتلال: سنهاجم الضاحية الجنوبية في بيروت بعد قليل    أمريكا تستنفر قواتها في الشرق الأوسط وتؤمن سفارتها بدول المنطقة    فلسطين.. إصابات جراء استهداف الاحتلال خيام النازحين في مواصي برفح الفلسطينية    إعلام عبري: صفارات الإنذار تدوي في صفد ومحيطها    رويترز: الاتصال مع القيادة العليا لحزب الله فقد كليًا    الأنبا بولا يلتقي مطران إيبارشية ناشفيل    عمرو أدهم: لهذه الأسباب استحق الزمالك الفوز.. وحقيقة رفض اتحاد الكرة قيد بوبيندزا    جوميز: استحقينا التتويج بكأس السوبر الإفريقي.. وكنا الطرف الأفضل أمام الأهلي    عمر جابر: تفاجأنا باحتساب ركلة الجزاء.. والسوبر شهد تفاصيل صغيرة عديدة    جوميز ثاني مدرب برتغالي يتوج بكأس السوبر الأفريقي عبر التاريخ    مصراوي يكشف تفاصيل إصابة محمد هاني    ستوري نجوم كرة القدم.. احتفال لاعبي الزمالك بالسوبر.. بيلينجهام وزيدان.. تحية الونش للجماهير    عمرو الجنايني: الزمالك سيبقى كبير الكرة المصرية والأفريقية    أجواء حارة والعظمى في القاهرة 34.. حالة الطقس اليوم    تجديد حبس عاطل سرق عقارًا تحت الإنشاء ب15 مايو    التصريح بدفن جثمان طفل سقط من أعلى سيارة نقل بحلوان    بدءاً من اليوم.. غلق كلي للطريق الدائري من المنيب اتجاه المريوطية لمدة شهر    الوراق على صفيح ساخن..ودعوات للتظاهر لفك حصارها الأمني    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    أحمد العوضي يكشف حقيقة تعرضه لأزمة صحية    ذكرى وفاة الزعيم جمال عبد الناصر.. رمز الاستقلال الوطني والكرامة العربية    «عودة أسياد أفريقيا ولسه».. أشرف زكي يحتفل بفوز الزمالك بالسوبر الإفريقي    وفاة زوجة الفنان إسماعيل فرغلي    أنغام تبدع خلال حفلها بدبي ورد فعل مفاجئ منها للجمهور (فيديو وصور)    نائب محافظ قنا يتابع تنفيذ أنشطة مبادرة «بداية جديدة» لبناء الإنسان بقرية بخانس.. صور    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 28 سبتمبر 2024    تراجع سعر الطماطم والخيار والخضار في الأسواق اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    أبرزها منتجات الألبان.. 5 أطعمة ممنوعة لمرضى تكيس المبايض    حبس تشكيل عصابي تخصص في سرقة أعمدة الإنارة بالقطامية    "المشاط" تختتم زيارتها لنيويورك بلقاء وزير التنمية الدولية الكندي ورئيس مرفق السيولة والاستدامة    5 نعوش في جنازة واحدة.. تشييع جثامين ضحايا حادث صحراوي سوهاج - فيديو وصور    تفاصيل إصابة شاب إثر الاعتداء عليه بسبب خلافات في كرداسة    نشرة التوك شو| تحسن في الأحوال الجوية والشعور ببرودة الطقس أوائل أكتوبر    حظك اليوم.. توقعات الأبراج الفلكية اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    الشروع في قتل شاب بمنشأة القناطر    تحرك جديد.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    عباس شراقي يُحذر: سد النهضة قد ينفجر في أي لحظة    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    الأزهر للفتوى: معتقد الأب والأم بضرورة تربية الأبناء مثلما تربوا خلل جسيم في التربية    الوزارة فى الميدان    جراحة عاجلة للدعم فى «الحوار الوطنى»    كل ما تحتاج معرفته عن حكم الجمع والقصر في الصلاة للمسافر (فيديو)    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذهب لايؤكل
نشر في الأهرام المسائي يوم 10 - 08 - 2010

تسمو الدول وتتطور بالعلم والمعلومات الصحيحة‏,‏ ولما رأيت أن جهل معظم المصريين بتاريخهم سوف يؤدي إلي مفاهيم خاطئة‏,‏ قد تتشفاقم وتتحول إلي سلوك متطرف يعوق التقدم‏,‏ تفرغت أكثر من أربع سنوات لانجاز هذا الكتاب‏
لأن بعض المتصدين للكتابة إلي الناس أو المتحدثين اليهم ينطقون عن جهل أو سوء نية‏,‏ ويخلطون بين العقائد الخالدة وبين الأشخاص الفانين‏,‏ وهدفهم تأخر هذا الشعب العريق‏,‏ ففي تأخره رواج لبضاعتهم الفاسدة‏!‏
والتاريخ ذاكرة الأمة‏.‏ وكانت لمصر امبراطورية فرعونية قوية ثرية‏,‏ ضعفت بفساد الحكام‏,‏ وركونهم الي حياة الدعة والترف‏,‏ حتي تكون الجيش المصري من المرتزقة الأجانب‏,‏ الذين سيطروا علي البلاد بحكم السلاح‏,‏ فتمزقت البلاد إلي دويلات‏,‏ وكشف الأعداء سرها‏,‏ أي عرفوا الطريق الي احتلالها‏,‏ ووقعت مصر تحت استعمار طويل متعاقب لدول أقل منها حضارة‏,‏ من الفرس واليونان والرومان والعرب والفاطميين والأكراد الأيوبيين‏,‏ ثم المماليك فالأتراك العثمانيين وأخيرا الانجليز‏!‏
ومع استمرار المذلة والقمع‏,‏ فقد المصريون إحساسهم بالعزة القومية والاستقلالية‏.‏ قاوموا بعض الأحيان بإيجابية‏,‏ ومعظم الأحايين بسلبية‏,‏ من منطق أنهم باقون في بلادهم‏,‏ أما الطغاة فإلي زوال‏!‏
هذا الكتاب بجزء يه خلاصة آلاف الصفحات‏,‏ جميعها من المراجع الأمهات‏,‏ وحصيلة عشرات من الدراسات الحديثة الممتازة لبعض دارسينا الذين رجعوا إلي مصادر ومخطوطات ليست تحت يدي‏.‏ وقد انشأت هذا الكتاب من مقتطفات متتابعة من هذه المراجع النفيسة‏,‏ ولم انتقل منها إلي كتابات المعاصرين إلا لإيضاح ما خفي فهمه علي مؤرخي العصور الوسطي ولم أتدخل أنا إلا في القليل لربط أحداث أو إزالة غموض‏.‏
وجميع معلومات هذا الكتاب مسندة إلي مصادرها الأصلية المذكورة في نهاية كل جزء‏.‏ وقارئ مؤرخي العصور الوسطي يعاني من المغالاة والتعميم‏,‏كأن يقول أحدهم مثلا‏:‏ ثم حاربهم وقضي عليهم جميعا‏,‏ ويكون قصده أنه قتل الكثيرين منهم‏!..‏ ويعاني أيضا من اللغة المكتوبة بمفردات فصيحة وتركيبات عامية‏,‏ وقد تركت بعضها للحفاظ علي مذاق روح العصر‏.‏
وبسبب كثرة الألفاظ البائدة والأعجمية‏,‏ وغرابة الأسماء‏,‏ مثل‏:‏ طرنطاي‏,‏ يلبغا‏,‏ أشلون خوند‏,‏ أقجماس‏,‏ صرغتمش‏,‏ طشتمر‏,‏ وهو عينات سهلة‏,‏ اقتصدت في ذكر الشخصيات الهامشية بما لا يخل بالحقيقة التاريخية‏.‏
كما يكابد قارئ هؤلاء المؤرخين العظماء من جنوحهم الي صياغة التاريخ بأسلوب اليوميات‏.‏ فكان المؤرخ يبدأ الحادثة التاريخية المهمة‏,‏ ثم يترك إلي أحداث أخري منها ما هو خطير ومنها ما هو تافه‏,‏ ثم يعود إلي إكمال الحادثة التي بدأ بها‏,‏ بعد عشرات الصفحات أو في المجلد التالي‏!‏
ومن أمثلة المراجع الأساسية‏:‏ كتاب السلوك للمقريزي وهو أربعة أجزاء في اثني عشر مجلدا ضخما‏,‏ وخطط المقريزي في جزءين كبيرين‏,‏ والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ومكون من ستة عشر جزءا تضمها عشرة مجلدات ضخمة‏,‏ وبدائع الزهور لإبن إياس وهو خمسة أجزاء في ستة مجلدات‏,‏ إلي جانب تاريخ الجبرتي ومراجع أخري عديدة‏.‏
ولا يقل أهمية عنهم العلماء الذين أفنوا حياتهم في تحقيق هذه المراجع وكتابة الهوامش الموضحة للأسماء والمهن والأزياء المنقرضة‏,‏ حتي ان الهوامش تشغل نصف المساحة تقريبا‏,‏ من هؤلاء الأساتذة الدكاترة‏:‏ محمد مصطفي زيادة‏,‏ محمد مصطفي‏,‏ سعيد عبدالفتاح عاشور‏,‏ سيدة اسماعيل كاشف‏,‏ حسن حبشي‏,‏ فهيم محمد شلتوت‏,‏ ابراهيم علي طرخان‏,‏ سعاد ماهر‏,‏ جمال الدين الشيال‏,‏ مصطفي السقا‏,‏ حسن ابراهيم حسن‏,‏ محمد كمال‏,‏ السيد محمد‏,‏ أحمد أمين‏,‏ علي مبارك‏,‏ فيليب حتي‏,‏ عبداللطيف حمزة‏,‏ حكيم أمين عبدالسيد‏,‏ محمد قنديل البقلي‏,‏ السيد محمد العزاوي وآخرون‏.‏ إلي هؤلاء الأفاضل وكثيرين أدين بالفضل‏.‏
والتاريخ في هذا الكتاب للسلاطين والملوك‏,‏ وقبل ذلك لحياة الناس وآثارهم المعمارية والأدبية والفنية وأزيائهم‏,‏ وارتباطهم بالمنطقة المحيطة‏,‏ ثم علاقتهم بأوروبا بعد أن تخلصت من المتاجرين بالدين‏,‏ وجعلت المسيحية للحياة الروحية‏,‏ وشئون الحياة العملية لأهل العلم والإدارة‏,‏ فقفز الغرب من الانحطاط والتخلف إلي ما هو عليه الآن من سيادة علي العالم‏.‏ فسادة الدنيا دائما هم سادة العلوم والابتكارات‏.‏ والمبدع لا يبتكر إلا في مناخ من الحرية الكاملة واحترام الرأي الآخر ويقدس المبادرة الفردية واحترام الملكات الشخصية‏.‏ بعد الحاكم وسنينه جاء ولده الملقب بالظاهر لإعزاز دين الله‏,‏ يقول علي مبارك‏:‏ فكثرت المفاسد وخيفت الطرقات‏,‏ وزال الأمن‏,‏ لإقباله علي اللهو وشرب الخمر‏,‏ ورخص للناس فيه وفي سماع الغناء وشرب الفقاع وأكل الملوخية والأسماك‏.‏ وزادت الأسعار‏,‏ وعز وجود الخبز‏,‏ واشتد الغلاء
‏*‏ ست الملك‏:‏
يضيف ابن تغري بردي‏:‏ وفي أيامه أذن للنصاري في إعادة ما كان يعمل في ليلة الغطاس‏,‏ وكان جده المعز أبطل ذلك في أيامه‏,‏ وكان من أجل المواسم بمصر‏,‏ وهي ليلة الحادي عشر من طوبة‏.‏ وكان في تلك الليلة يجتمع المسلمون والنصاري عند شاطئ النيل‏,‏ قبالة المقياس‏,‏ فتنصب هناك الخيام من جانبي النيل‏,‏ وتوضع فيها الأسرة لأثرياء القبط‏.‏ وكان النيل يمتلئ بالمراكب من سائر المسلمين والنصاري‏..‏
فلما يدخل الليل‏,‏ تزين المراكب بالقناديل وتشعل فيها الشموع‏,‏ وتشعل المشاعل علي الشطوط‏.‏ فكان يوقد من تلك الليلة أكثر من ألف مشعل وألف فانوس‏,‏ وينفق من الأموال ما لا يحصي من المأكل والمشرب‏..‏ وتجتمع أرباب المغاني والآلات والملاعب في كل فن‏,‏ ويخرج الناس في تلك الليلة عن الحد في اللهو‏,‏ ولا يغلق فيها دكان ولا درب ولا أسواق‏..‏ وكان الخليفة يحضر في قصر جده الذي يشرف علي البحر ويتفرج علي المهرجان
وفي البداية كانت عمته ست الملك هي القائمة بأمور الدولة أحسن قيام يعاونها الوزير‏.‏ وعلي حد قول محمد عنان‏:‏ كانت سياسة أخيها الحاكم بأمر الله إزاء النصاري وهدم الكنائس والأديار‏,‏ ولاسيما كنيسة القيامة بالقدس‏,‏ قبر المسيح المقدس‏,‏ أثارت حفيظة الدولة البيزنطية وكنيستها الشرقية التي اعتبرت نفسها حامية النصرانية في المشرق‏..‏ وكانت ست الملك تخشي عواقب هذه السياسة العنيفة وتجاهد في تلطيفها‏.‏ وكان لها أكبر يد في تدبير مصرع أخيها لانقاذ الخلافة الفاطمية‏..‏
فلما انتهت المأساة بذهاب الحاكم وقيام ولده الظاهر بتدبيرها‏,‏ عادت الخلافة الفاطمية الي تسامحها المأثور نحو النصاري‏,‏ وردت إليهم حريتهم وحقوقهم‏,‏ وسمح لهم بتجديد ما درس من الكنائس‏,‏ ولا سيما كنيسة القيامة‏..‏ وانتهزت الأميرة الفرصة لتحسين العلاقات مع البيزنطيين‏,‏ لكنها توفيت‏,‏ وبعدها بقليل مات امبراطور بيزنظة
تهرأت دولة الظاهر‏,‏ واستوزر الوزير نجيب الدولة علي الجرجائي‏,‏ وكان مقطوع اليدين من المرفقين‏,‏ قطعهما الحاكم بأمر الله‏,‏ وكان يكتب عنه العلامة القضاعي‏.‏ ولم يظهر أمر هذا الوزير إلا بعد موت ست الملك عام‏415‏ ه‏(146)‏
‏*‏ تآكل الدولة‏:‏
يقول لينبول‏:‏ وقعت الدولة تحت حكم فاسد في يد عصابة من رجال البلاط‏..‏
ثم حدثت مجاعة مروعة‏,‏ دفعت بالجياع الي قطع الطريق‏.‏ وأرهقت ميزانية الدولة فتمرد العبيد‏.‏ وكانت سوريا في ثورة بينما الظاهر لإعزار دين الله يروح عن نفسه بالاستماع الي المغنيين والراقصين‏,‏ وقرمدة الفتيات حتي يمتن جوعا
والقرمدة هذه نفهمها من الواقعة التالية التي رواها ابن إياس‏:‏ في سنة‏423‏ ه نادي الخليفة الظاهر في القاهرة بأن الجواري التي في مصر والقاهرة يتجمعن عن آخرهن‏,‏ ويتزين بأحسن الملابس‏,‏ ويحضرن الي قصر الخليفة‏.‏
فصار كل من عنده جارية يلبسها من أحسن الثياب الفاخر ويحضرها الي القصر‏.‏
فلما تكامل جمعهن‏,‏ أمر بأن يجعلهن في مجلس‏,‏ ويسد عليهن باب هذا المجلس‏,‏ فبني الباب‏(‏ بطوب القرميد‏,‏ ومن هنا جاء اشتقاق القرمدة‏!)‏ وتركهن ستة أشهر‏,‏ ثم بعد ذلك أضرم فيهن النار حتي أحرقهن‏..‏ وكانت عدتهن ألفا وستمائة وستين جارية‏!!‏
ولم يقع من أبيه الحاكم مثل هذه الواقعة‏.‏ وكانت مساوئه أنحس من مسائ أبيه‏!‏
إلا أن حظ الفاطميين حالفهم‏,‏ في فيضانات النيل الخصبة‏,‏ وفي إخماد الثورة في سوريا بواسطة نائب الخليفة‏,‏ ثم العمل علي إسكات الجند الي حين‏.‏
وكل هذا جعل مصر تهدأ نسبيا لمدة ربع قرن‏.‏ وبعدها كان وادي النيل هو كل ما بقي للفاطميين تقريبا‏,‏ ذلك أنهم كانوا قد فقدوا مستعمراتهم العظيمة في بلاد المغرب عام‏1046‏ م‏,‏ كما أن سيادتهم القديمة علي البحر المتوسط قد ذهبت الي حيث لا رجعة
‏*‏وفاء النيل‏:‏
ثم تولي المستنصر بالله بعد موت أبيه‏(427‏ ه‏1035‏ م‏)‏ وكان طفلا في حوالي السابعة‏.‏ وقد استطاع دون أي جهد من جانبه‏,‏ أن يبقي علي العرش حوالي ستين عاما‏,‏ رغم تأثير أمه السودانية السئ‏,‏ بين الهزات والشدائد والوباء والغلاء والفتن‏!‏
لكن البداية كانت طيبة ولدينا ما رواه ناصرخسرو الرحالة الفارسي عن العاصمة سنة‏1047‏ م‏,‏ فقد ذكر أن مصر عامة في ذلك الوقت كانت في يسر ورخاء واستقرار‏,‏ مما لم تشهده البلاد من قبل‏,‏ ولقد كان الخليفة المستنصر بالله محبوبا من الشعب‏,‏ ولم يكن أحد يمتلكه الفزع والرعب حين يكون في حضرته
وكان في القاهرة المعزية وحدها مايربو علي عشرين ألف متجر‏,‏ كلها ملك الخليفة‏,‏ ويدفع كل متجر من دينارين إلي عشرة في الشهر‏,‏ وقيل انه يمتلك عشرين ألف سكن ارتفاع الواحد منها خمس أو ست طبقات‏,‏ وإيجار الواحد منها في المتوسط أحد عشر دينارا في الشهر‏.‏ وكانت المنازل تبني بعناية تامة بالأحجار وليس بالأجر‏,‏ ويفصلها عن بعضها البعض حدائق جميلة وكانت جدران أسوار المدينة قد تهدمت‏,‏ غير أن المنازل في حد ذاتها بمثابة تحصين منيع‏,‏ وكان قصر مثل الحصن‏..‏
وكانت المسافة بين القاهرة ومدينة مصر تبلغ ميلين ومغطاة بالحدائق والاخواخ‏,‏ إلا أنها كانت تبدو أثناء الفيضان كأنها بحر‏..‏
وفي احتفال وفاء النيل أو جبر الخليج ركب الخليفة علي رأس عشرة آلاف فارس‏,‏ كل منهم فوق سرج موشي بالذهب والاحجار الكريمة‏,‏ وفوقه غطاء حريري ثمين عليه اسم الخليفة‏,‏ والجمال يحمل كل منها هودجا مرصعا بالزينة والنقوش‏,‏ وحتي البغال كان لها نصيب في السروج المرصعة بالجواهر‏.‏
وسارت فصائل الجيش‏,‏ الواحدة وراء الاخري‏,‏ تجاه مصب الخليج‏,‏ وكانت تتكون من‏:‏
البربر من قبيلة كتامة‏,‏ وكانوا عشرين ألفا من الجند الأقوياء‏.‏
المغربة وعددهم خمسة عشر الفا
المصمودة وعددهم عشرون ألفا
الاتراك والفرس عشرة الاف
والبدو والحجاز نحو خمسة عشر الفا
والسودانيين السود نحو ثلاثين الفا
وبعد فصائل الجيش السابقة الخالية من المصريين طبعا‏,‏ جاء‏:‏
العبيد والحجاب والموظفون علي اختلاف طبقاتهم‏,‏ والشعراء والاطباء وأمراء مراكش واليمن والنوبة والحبشة وآسيا الصغري والقوقاز والتركستان‏,‏ وحتي أحد أبناء أحد سلاطين دلهي الذي كانت أمة تقيم بالقاهرة‏.‏
أما الخليفة نفسه فكانت له طلعة بهية‏.‏ إذ كان حليق الذقن‏,‏ يرتدي ثوبا طويلا ناصع البياض‏,‏ ويركب بغلا مجردا من أي زينة‏.‏
ثم هناك ثلاث مائة من الفرس الديلم سائرين علي الأقدام يحملون الحراب ويرتدون الملابس اليونانية الموشاة بالقصب‏,‏ ويكونون حرسا خاصا للخليفة‏.‏ والي جانبه سار أحد كبار رجال الدولة حاملا شارة المملكة‏.‏ وعلي كلا الجانبين بعض الاغوات يحرقون البخور‏!..‏ وكان جميع الناس ينحنون في إجلال وخشوع حين مرور الخليفة الي خيمته الحريرية عند فم الخليج‏..‏
وحين قذف بمحراب الي السد عمل بمجارفهم ومعاولهم‏,‏ الي أن سالت مياه النيل ليمتلئ الخليج‏.,‏ حينئذ أخذ الناس في النزهة في النهر يتقدمهم قارب مملوء بعدد من الصم أو البكم كي يكونوا فألا طيبا
‏*‏ تناحر العسكر‏:‏
كان الرحالة الفارسي الذي شاهد هذا الاحتفال الباذخ يوم جبر الخليج أي كسر السد الترابي لدخول مياه النيل الخليج‏,‏ وهو يوم وفاء النيل‏,‏ كان سعيد الحظ‏.‏ ذلك أنه بعد رحيله مرت القاهرة بأعمال سلب ونهب بسبب تناحر العسكر المرتزقة من أخلاط الجنسيات التي اشتركت في العرض‏.‏ وفي البداية استطاع وزير كفء أن يسيطر علي الموقف‏,‏ لكنه مات مسموما‏!‏
ولأن الخليفة خالط الرعاع وقدم الأراذل‏,‏ اشتبهت عليه الأمور‏,‏ ووقع الخلاف بين عبيد الدولة وعسكر الترك‏,‏ وضعفت قوي الوزراء عن التدبير لقصر مدة كل منهم بحيث تبادل الوزارة أربعون وزيرا في مدة تسع سنوات‏,‏ وقتل بعضهم‏.‏ وكذلك كان الحال مع القضاة‏!‏
والواقع أن الحكم كان في أيدي القوات التركية التي تحالفت مع البربر‏,‏ وتمكنت من طرد السوادنيين من القاهرة‏,‏ فاستقروا في صعيد مصر‏,‏ وقتلوا وسبوا‏,‏ بحيث لم يزرع احد الارض‏.‏ ثم لم يلبث أن طرد البربر بدورهم فانتشروا في أنحاء الوجه البحري وخربوه وأفسدوا الري فبارت الأرض‏!.‏
واستبد الترك بالعاصمة نهبا وسلبا حتي جردوا قصور الخلفاء الفخمة بما فيها من تحف وجواهر وملابس موشاة بالذهب‏,‏ وكئوس محفور عليها اسم هارون الرشيد‏,‏ وهدية امبراطور روماني الي العزيز‏,‏ وسيف النبي‏,‏ ودرع الحسين وسيف المعز‏,‏ وكميات من الخناجر المرصعة بالجواهر‏,‏ وأطباق ومحابر ذهب‏,‏ ورقاع شطرنج موشاة علي حرير بالذهب والأبنوس والعاج‏,‏ ومنضدة من العقيق‏,‏ وطاووس ذهبي عيناه ياقوت أحمر‏..‏ وخيمة الخليفة الظاهر بخيوطها الذهبية وأوتادها الفضية‏,‏ وخيمة الوزير‏(‏ الذي مات مسموما‏)‏ التي صنعها خمسون صانعا‏.‏
في تسع سنوات‏!..‏ وأكثر من ذلك كله ضاع واندثر‏!‏
بعد ذلك اقتحموا‏(‏ أي الأتراك‏)‏ المكتبة الفاطمية التي لم يكن يوجد لها نظير‏,‏ واستخدموا جلود الكتب في اصلاح نعالهم واشعال النار‏!‏
ولأن الصعيد وقع في قبضة السودان‏,‏ والوجة البحري في قبضة البربر‏,‏ انقطعت المؤن والغلال عن العاصمة‏,‏ وبدأت مجاعة عظمي لمدة سبع سنوات عجاف‏!‏
‏*‏ الغلاء العظيم‏:‏
يقول ابن تغري بردي‏:‏ كان من عادة المستنصر في كل سنة أن يركب الجمال مع النساء والحشم الي جب عميرة وهو موضع نزهة قرب شبين القناطر‏..‏ فيخرج بهيئة أنه خارج الي الحج علي سبيل الهزء والمجون‏,‏ ومعه الخمر في الروايا‏(‏نوع من القرب‏)‏ عوضا عن الماء‏,‏ ويسقيه للناس كما يفعل بالماء في طريق مكة‏!!‏
واتفق أن أحد الأتراك جرد سيفه في سكرته علي أحد العبيد‏,‏ فاجتمع عليه طائفة منهم وقتلوه‏,‏ فاجتمع جماعة من الأتراك وقتلوا جماعة من العبيد‏,‏ وكانت أم المستنصر تعين العبيد بالسلاح والأموال‏..‏ وتأزمت الأمور وقتل من الأتراك والعبيد خلائق كثيرة‏,‏ وطمع كل واحد في الآخر‏!‏
وكان سبب كثرة السودان ميل ام المستنصر لهم‏,‏ فانها كانها جارية سوداء‏,‏ وتحكمت في الدولة‏,‏ واشترت العبيد وجعلتهم طائفة‏,‏ واستكثرت منهم
الي جانب هذا التخريب قل منسوب النيل‏,‏ يقول إبن إياس‏:‏ فشرقت البلاد‏,‏ ووقع الغلاء العظيم‏..‏ سبع سنين متوالية‏,‏ فأكلت الناس بعضها البعض‏..‏ حتي بيع الرغيف الواحد بخمسة عشر دينارا‏,‏ وأكلت الناس الميتة والكلاب والقطط‏..‏ وقيل إن الكلب كان يدخل الدار فيأكل الرضيع وهو في المهد وأمه وأبوه ينظران اليه‏,‏ ولا يستطيعان ان ينهضا لدفع الكلب عن طفلهما من شدة الجوع‏!‏
ثم اشتد الأمر حتي صار الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله ولاينكر عليه ذلك‏,‏ وحتي قام القوي علي الضعيف يذبحه ويأكله جهارا‏..‏ وقيل ان الوزير ركب يوما علي بغلة وتوجه الي دار الخلافة‏,‏ فلما نزل عن البغلة أخدها الجياع وأكلوها‏..‏
وكان بمدينة الفسطاط حارة فيها نحو عشرين دارا‏,‏ كل دار تساوي ألف دينار‏,‏ بيعت كلها بطبق خبز‏,‏ كل دار برغيف‏,‏ فسميت من يومئذ حارة الطبق‏.‏ ولم تجد امرأة من يأخذ منها اللآلئ ويعطيها قمحا‏..‏
‏*‏ الغلاء العظيم‏:‏
ثم أعقب هذا الغلاء العظيم فناء عظيم‏(‏ وباء لا دواء له‏)‏ حتي فني من أهل مصر نحو الثلث‏,‏ واستمر نحو عشرة أشهر‏,‏ حتي قيل فني من الناس نحو النصف‏..‏ ولما تعطلت البلاد من عدم الفلاحة تعذر صرف جوامك‏(‏ رواتب‏)‏ الجند‏.‏ فكان المستنصر بالله يبيع من خزائنه‏.‏ فباع ثمانين ألف قطعة من الجوهر والياقوت‏,‏ وخمسة وسبعين ألف شقة حرير مرقومة بالذهب‏,‏ وعشرين ألف سيف مسقطة بالذهب‏,‏ وإحدي وعشرين دارا وضيعة‏,‏ حتي رخام قبور اجداده باعه‏,‏ ولم يعد عنده من آثار النعمة سوي سجادة رومية يقعد عليها‏.‏
كان النيل ينزل ويطلع ولايجد من يزرع‏.‏ وهربت زوجة المستنصر ببناته الي بغداد بعيدا عن الوباء والمجاعة‏..‏ وبعث الخليفة الي امبراطور الروم بالقسطنطينة ان يحمل الغلال الي مصر‏,‏ فأطلق اربعمائة الف اردب ليحملها الي مصر لكن الموت ادركه قبل ذلك‏,‏ وقامت من بعدة امرأة‏(‏ تيودورا‏)‏ فكتبت إلي اللمستنصر تسأله أن يكون عونا لها إذا ثار عليها أحد فأبي فمنعت الغلال‏..‏ وغضب وأمر بأمور مهولة منها القبض علي جميع من في كنيسة القيامة ببيت المقدس
وفارق كثير من الناس البلد‏,‏ وخربت الفسطاط وخلا موضع العسكر والقطائع وظاهر مصر فيما يلي القرافة الي بركة الحبش‏!‏
‏*‏ بدر الجمالي‏:‏
فكتب الخليفة الي أمير الجيوش أبي نجم بدر الجمالي نائب مكة وقتئذ يستدعيه‏,‏ فحضر من البحر بعسكر جرار وسار حتي دخل القاهرة‏,‏ وقبض علي الأمراء وقتلهم‏,‏ وتتبع المفسدين في كل جهة من العرب وغيرهم حتي أفناهم وصادر اموالهم‏,‏ حتي استقامت احوال البلاد‏,‏ واراح الفلاحين من الأموال ثلاث سنوات فصلحت احوالهم‏,‏ وحسن حال مدينة مصر والقاهرة‏.‏
وأمر العسكر والأرمن بالبناء لتعمير الخراب‏..‏ فأكثر الناس من عمارة الدور في القاهرة وسكنوها‏,‏ واتسعت دائرة العمارة وسكنها اصحاب السلطان الي انقراض الدولة الفاطمية‏.‏
وكثرت المباني خلف السور‏(‏ القديم‏)‏ فبني بدر الجمالي حول القاهرة سورا جديدا يدور بها وابواب النصر والفتوح وزويلة كلها من انشائه وكانت في ذلك السور‏..‏ وما حدث من بناء بين السور القديم والسور الجديد سمي بين السورين يقول لينبول‏:‏ لم تعرف مصر مثل تلك السنوات السبع العجاف‏,‏ غير أن لكل شيء نهاية‏,‏ فقد كان المحصول التالي وفيرا‏.‏ وأنقذ بدر الجمالي الدولة المتداعية‏,‏ وكان أرمنيا وليس مسيحيا‏.‏ بدأ حياته كأحد العبيد‏,‏ وكانت قدراته الفائقة سببا في رقيه‏,‏ فأصبح حاكما علي دمشق ثم عكا‏..‏ ثم جاء مصر وقضي علي المتمردين منهيا عهد الارهاب‏.‏ وقسا علي البربر والعرب والسودان‏..‏
ثم استردت البلاد لمدة عشرين سنة تالية نشاطها وحياتها‏,‏ وبني بدر السور الجديد من الأجر وليس من اللبن كالقديم‏,‏ وبني بوابات النصر والفتوح وزويلة بالحجارة‏,‏ وهذه الأبواب من أروع آثار الفاطميين‏,‏ إلا أنها بيزنطية الطابع وليست عربية‏..‏ وكان المقريزي علي حق‏,‏ حيث ذكر انها بنيت بواسطة إخوة ثلاثة من الرها‏,‏ وهي مدينة حافلة بالأرمنيين‏,‏ حيث كان من الطبيعي أن يبحث بدر بخبرته في سوريا عن مهندسين لها‏.‏ وقد بني كل واحد من هؤلاء الأخوة واحدا من تلك الأبواب‏,‏ فجاء الطراز علي منوال المدرسة السورية البيزنطية التي يمكن تتبع خصائصها في القسطنطينية وفي الحصون القديمة شمال سوريا‏.‏
‏*‏ حكم الوزراء‏:‏
مع بدر الجمالي صار المستنصر كالمحجور عليه‏,‏ ولم يبق له أمر ولا نهي إلا الركوب في العيدين‏.‏ ومنذ عهد بدر صارت مصر محكومة بالوزراء لا الخلفاء‏,‏ وقد مات بدر‏,‏ وتولي الوزارة مكانه ابنه الأفضل وصار له الأمر والربط‏,‏ وبعد شهور مات المستنصر بعد ستين سنة علي كرسي الخلافة‏,‏ وهي أطول مدة جلسها خليفة‏,‏ فقام بعده ابنه المستعلي بالله أحمد أبوقاسم‏(487‏ ه 1094‏ م‏)‏ وعمره يناهز العشرين‏,‏ أقامه أمير الجيوش الأفضل بدر الجمالي وصار قائما عليه‏.‏
فخرج أخوه نزار وتمرد لأنه أحق بالخلافة‏,‏ فهو الأكبر سنا‏,‏ وكان والده قد جعل إليه ولاية العهد فلما مرض أراد أخذ البيعة له‏,‏ فتقاعس الأفضل حتي مات المستنصر‏,‏ كراهية منه لنزار‏,‏ وذلك ان نزارا خرج ذات يوم في حياة أبيه‏,‏ فإذا بالأفضل راكبا وقد دخل من أحد أبواب القصر‏,‏ فصاح‏:‏ إنزل يا أرمني يا نحس‏,‏ فحقدها عليه وكره كل منهما الآخر‏.‏
وهذه الحادثة سوف تكون لها عواقب جسيمة‏!‏
في أيام المستعلي هذا كان أول تحرك الفرنج لأخذ سواحل الشام وفلسطين حتي أخذوا بيت المقدس التي فيها كنيسة القيامة‏,‏ وكانت منذ فتحها عمر بن الخطاب في أيدي المسلمين‏,‏ فخرج الأفضل بن بدر الجمالي بالجيش‏,‏ لكن الوقت كان قد فات‏,‏ وانهزم إلي عسقلان‏,‏ ولعبت سيوف الفرنج في العسكر وأهل البلد‏!‏
ثم مات المستعلي وعمره سبعة وعشرون سنة‏,‏ ومدة خلافته سبع سنين وشهران‏,‏ والمتصرف في أثنائها الأفضل‏.‏ وكان المستعلي جميل السيرة‏,‏ ملازما لقصره كعادة أبيه إلا أنه مع تقاعده عن الجهاد كان متغاليا في الرفض والتشيع‏,‏ وكانت تقع منه الأمور الشنيعة في مأتم عاشوراء‏,‏ ويبالغ في النوح والمأتم‏,‏ ويأمر الناس باللطم والبكاء‏,‏ زيادة علي ما كان يفعله آباؤه‏.‏
يقول محمد كمال السيد‏:‏ وقد حدث في دار العلم التي أنشأها الحاكم بأمر الله أن ظهر بعض من يفسد العقول‏,‏ فادعي أحدهم النبوة واسمه القصار‏,‏ وتبعه كثيرون‏,‏ إلي أن قبض الأفضل علي من وجده منهم وقتلهم‏,‏ وهرب القصار‏,‏ وأغلق الأفضل دار العلم‏.‏
بعد المستعلي تولي ابنه الآمر بأحكام الله منصور أبوعلي عام‏495‏ ه‏(1101‏ م‏)‏ وكان صبيا‏.‏ وفي أيامه أخذ الفرنج مزيدا من المدن الساحلية مثل عكا وطرابلس وبانياس وبيروت وصور وصيدا‏,‏ وقتلوا وسبوا‏..‏
يقول ابن إياس ان الآمر عندما شب عن الطوق قتل الوزير الأفضل بن بدر الجمالي‏.‏ قتله بعض الفداوية وهو راكب في بعض أشغاله‏,‏ فوجد له من الأموال ستمائة ألف ألف دينار ذهب‏,‏ ومن الفضة مائتين وخمسين أردبا‏,‏ ودواة مرصعة بفصوص ثمنها اثنا عشر ألف دينار‏,‏ وخمسمائة صندوق ما علم مافيها وأشياء أخري عديدة‏.‏
وتولي عوضه الأقمر‏,‏ وهو الذي بني جامع الأقمر‏,‏ ثم قبض الآمر عليه وأخذ أمواله فظهر له من الأموال هو أيضا ما لا يحصي‏,‏ فمن ذلك مائة صندوق ما بين ذهب وجواهر ودراهم فضة وغيرها‏,‏ ثم قتله‏..‏
واستقر في الوزارة بعده البطائحي نحو سنة وقبض عليه الآمر وصلبه‏.‏ واحتاط علي موجوده‏,‏ وقتل معه خمسة من أخوته‏!‏
كان الخليفة الآمر طائش العقل‏,‏ تجاهر بالمنكرات وسماع الزمور وشرب الخمر‏,‏ وانشأ له قصرا بالروضة علي شاطئ النيل سماه الهودج‏.‏ وأنشأ حوله بستانا‏,‏ وصار ينزل بالقصر وانشغل عن أحوال المملكة‏,‏ فصار الناس مثل الغنم بلا راع‏.‏
‏*‏ قصر الهودج‏:‏
وقد سميت جزيرة الروضة باسم بستانه الذي أنشأه فيها وسماه الروضة‏.‏ وكانت تعرف قبل ذلك بالجزيرة أو جزيرة مصر وبجزيرة الفسطاط‏,‏ ثم قيل جزيرة المقياس‏,‏ حيث كان بها مقياس النيل‏,‏ وعرفت أيضا باسم جزيرة الحصن‏,‏ حيث كان الحصن الذي بناه أحمد بن طولون سنة‏263‏ ه‏.‏
ولقصر الهودج الذي بناه الآمر حكاية‏:‏ فقد كان يهيم بالجواري الحسان‏,‏ ويشغف بفتيات البدو بنوع خاص‏,‏ ويرسل في أثرهن رسله وعيونه يجوبون البوادي والنجوع‏,‏ فنقل إليه أحدهم أنه عثر بالصعيد علي جارية عربية هي مثال للجمال العربي‏,‏ أديبة شاعرة وافرة الذكاء‏..‏ فطلبها من أهلها‏,‏ ففرحوا وأرسلوها إليه‏,‏ فصارت زوجته‏..‏ لكنها أحست الملل والضجر خلف جدران القصر الفاطمي العالية‏,‏ فأنشأ لها قصر الهودج وحديقة الروضة‏..‏ رغم هذا لم تكن سعيدة بسبب عشقها لأحد أبناء عمومتها‏,‏ فبعثت إليه بأبيات تبثه أشواقها‏,‏ إلي أن قالت‏:‏
فأنا الآن بقصر موصد‏...‏ لا أري إلا حبيبا ممسكا‏.‏
ورد عليها حبيبها بأبيات هجا فيها الخليفة الآمر‏,‏ الذي عرف بالرسالة فقال‏:‏
لو أنه لم يسبني لأعدتها إليه وزوجته منها‏!‏
ومن قصر الهودج بالروضة كان راجعا‏,‏ فوثب عليه جماعة من عبيده الزنج وقتلوه بالخناجر تحت الليل وهو سكران وهذا غير صحيح‏:‏ فالذين قتلوا الأفضل بن بدر الجمالي بعض الفداوية‏,‏ وهؤلاء هم قتلة الآمر‏!‏
والفداوية لهم قصة‏.‏ وأصل نشأتهم هو تولي الآمر الخلافة عوضا عن أخيه الأكبر نزار‏,‏ فكان ذلك عاملا من عوامل ظهور طائفة روعت المنطقة كلها باغتيالات متتالية‏,‏ سميت بالحشاشين وبالفداوية والنزارية نسبة إلي نزار‏,‏ وحكايتهم مشحونة بالاغتيالات السياسية‏!‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.