هذه رسالة من فوق مياه نهر النيل الأزرق الهادئ سطحاً والصاخب عمقاً. في واحدة من الجلسات الحوارية مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تطرق الحديث الى مصر التي كان يقضي فيها أياماً أكثر مما كان يمضي في رام الله قبل فرض الحصار الاسرائيلي عليه في المقاطعة. سألت: ماذا تعني لك مصر يا ابو عمار؟ أجاب: مصر هي حبي الكبير! قلت: والقدس إذاً يا أبو عمار؟ أجاب باستدراك: القدس هي حبي الأول. وتخلص ياسر عرفات من اي إحراج موزعاً حبه بين القدس ومصر، ومستطرداً: شوف شعب مصر هو كنهر النيل، يبدو هادئاً وصافياً يترقرق بانسياب وعذوبة لكن سرعان ما تحركه التيارات المائية في داخله وفي أعماقه فيعصف ويفيض ويرتفع منسوبه الى ما فوق المعدل كبادرة تحذير عن حالة غضب. وربما تتضح استعارة هذا التشبيه في الكتابة عن مصر وما يدور عليها ومن حولها في هذه الأيام الشديدة الحرارة. وتتفاوت ردات الفعل بين شخص وآخر. فالبعض يعتبر ان هذا هو الشهر السابع تموز )يوليو) وفيه تشتد الحرارة وترتفع عن معدلها الطبيعي بفعل تأثيرات مناخية متعددة. فيما يرى البعض الآخر ان هذه الصورة تنطبق على الاجواء العامة المخيمة على مصر في هذه الأيام بالذات من سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية وان الأمر لا يقتصر على الاجواء المناخية فحسب، بل هو يحفل بالعديد من التيارات السياسية التي تتصف بكثرة تعدادها وبقلة كثافة كل منها الكثافة التي تعكس فعلاً إرادة شعبية كبيرة في التغيير الجذري في رأس هرم الحكم. فبين حركة «كفاية» تقابلها حركة «مش كفاية» تحتشد المعارضات في مصر ما بين الفرد الواحد أو التجمعات التي تضم العشرات، وبعضها المئات وبعضها الآخر الآلاف. لكن تسمية المعارضة المصرية تعبير فضفاض للغاية ربما يفتقر الى الهيكلية السياسية والقاعدة الجماهيرية العريضة الفاعلة والمؤثرة، تضاف اليها مجموعة الاحزاب السياسية التي لم تتمكن رغم تعددها من ان تدع المواطن العادي يمنحها الثقة بقيادة حركات تنوير أو تغيير تحدث نقلة نوعية في حياة المصري المسحوق بالضغوط أولها الحياتية والاقتصادية والمعيشية وكلها تعابير مختلفة لنتيجة واحدة وهي رزوح غالبية الشعب المصري تحت وطأة الضغوط على اختلافها، الأمر الذي شكل حالة من الاحتقان الكبير أو من الاحباطات أو الاخفاقات يعبر عنها بشتى الوسائل بالتظاهرات والهتافات حتى إذا أصيب بالوهن عاد الى مجتمعاته الضيقة يشكو أمره حسبي الله ونعم الوكيل. وعلى رغم كل هذه الضغوط المحيطة لم تغب عن هذا المواطن المصري روح الفكاهة والتي يعتبرها دواء ناجعاً ومتاحاً للكثير مما يشكو منه وهو الذي استخرج من الكآبة والحزن روح النكتة والدعابة لتأمين استمرار الحياة مهما اشتدت النوائب وقست الظروف التي بعضها من صنع قضاء التدابير الحكومية التي لا تملك في كثير من الاحيان العديد من الخيارات، فيما البعض الآخر من صنع الأقدار الطبيعية. وبين القضاء والقدر يلتمس المصريون أو العديد منهم حلاً لضائقة، أو يسراً لعسر، أو خروجاً سحرياً من هذه الدوامة التي أصابت الكثيرين منهم بالدوار وضغط الدم العالي وأنواع الروماتيزم والنسب العالية من الكوليسترول. ونحن هنا نتحدث بطبيعة الحال عن الغالبية الشعبية الساحقة ولا نتعرض لطبقة الأثرياء القدامى أو الأثرياء الجدد فهذه الفئة بعيدة عن المعاناة وتعيش في مصر أخرى لا علاقة لها ب مصر الغلابة. وعلى الصعيد العام اعترف مسؤول حكومي بتراجع نصيب الفرد في مصر من الناتج المحلي الذي بلغ 1240 دولار. وإذا انتقل الى تصنيف الدول الأخرى فيذكر ان جزر سيشيل على سبيل المثال حلت في المركز الأول )بين تجمع دول الكوميسا( حيث بلغ نصيب الفرد 7500 دولار، فيما بلغ في جزر الموريشوس 4500 دولار، وفي ناميبيا 1600 دولار وفي سوازيلاند 1300 دولار. ومثل هذا الاحصاء البسيط يعطي فكرة عن تدني نسبة الفرد في مصر. على ان الموضوع المحوري الذي يطغى على كل اهتمامات الشارع المصري في هذه الايام هو رئاسة الجمهورية التي تحل انتخاباتها في شهر ايلول )سبتمبر( المقبل. ومع اقتراب هذا الموعد ترتفع حمى الصراع والمنافسة والجدال القائم في كل مكان من الحتت المصرية. وحتى كتابة هذه السطور لم يكن الرئيس محمد حسني مبارك قد اعلن رسمياً عن ترشيح نفسه لولاية خامسة أو العزوف عن مثل هذا الترشيح، على رغم استبعاد هذا الاحتمال من قبل هيئات كثيرة. وهذا الأمر ترك للشارع السياسي في مصر ان يتنبأ حول مصير الرئيس المقبل طارحاً احتمالات عدة قد لا يصح اي واحد منها على الإطلاق لكنها تشكل مادة للكلام وللكتابة على الأقل. ومن المفارقات الكثيرة في مصر حالياً أنك عندما تطلع على ما يسمى بالصحف القومية ترى أن الدنيا بألف خير، فيما إذا تحولت إلى الصحف الأخرى المستقلة أو المعارضة تلحظ حالة من الهيجان الإعلامي ومن الصخب السياسي ومن النقد اللاذع الذي يمكن أن يحسب للنظام في مصر، بخاصة أن العديد من مقالات الرأي التي تحفل بها هذه الصحف فيها الكثير من جرعات النقد الجارح والحريات الصحافية الممتدة بل المتمادية في بعض الأحيان. ورغم أننا مع حرية الصحافة من حيث المبدأ فإن حق الاختلاف مع الآخر له نظامه ومفرداته ومعجمه التي لا يجب أن تخرج في مجموعها عن آداب الحوار وأصول النقاش بين أصحاب هذا الرأي والرأي الآخر. حتى أن بعض ما يسمى بالنقد السياسي يفقد الكثير من موضوعيته ومن قوة المنطق فيه عندما يتحول الأمر إلى القدح والذم وحتى الشتم. وعندما تحاول مقارعة أصحاب هذه الأقلام بمضمون ما يكتبون، يأتيك الجواب: لا يعرف الشوق إلا من يكابده. على أن أبرز التجمعات المعارضة في مصر والتي لها تاريخ عريق في العمل السياسي هي حركة الأخوان المسلمين التي استطاعت عبر سنوات طويلة من إيجاد قواعد شعبية لها في كثير من المجالات. ويلاحظ متابعو النشاط السياسي أن الإخوان تمكنوا عبر نضالهم السياسي من تخطي عقدة الحظر الرسمي المفروضة عليهم والتعامل مع شتى قطاعات الرأي العام بتنظيم دقيق عرفوا به من حيث السيطرة على عدد من النقابات الرئيسية في البلاد، لكن مع ذلك فإن ليس لحركة الإخوان المسلمين من مرشحين بارزين لطرح أنفسهم كبدائل لرئاسة الجمهورية المصرية، رغم أنهم قوة سياسية وتيار ديني بارز يحتاج إلى تأييده كل من يريد قيادة عمل شعبي تغييري في مصر. ... وماذا عن حركة كفاية التي اختارت هذا الشعار الشعبي للقول أن ما جرى قد جرى لكن كفى؟ لقد قامت بالعديد من التظاهرات الشعبية الشديدة الصخب والصراخ لكنها قليلة العدد والأعضاءَ الذين ينتمون إليها هم من تيارات أخرى مختلفة، وينفون عن أنفسهم بشدة صفة الحركة اليسارية، ويقول الدكتور هاني عنان عضو لجنة التنسيق لحركة كفاية أن خطة لتصعيد تحركاتها المعارضة للتجديد للرئيس حسني مبارك سيجري العمل عليها بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة والتي يعتبرها فاقدة للشرعية بسبب مقاطعتها من جانب نادي القضاة المصريين. وكأن في هذا الرأي عملية تسليم بالواقع الآتي باستمرارية المباركية في حكم مصر. ورغم اللغط السياسي القائم فإن سر القصر ما زالت تفاصيله محصورة ضمن نطاق أسري وسياسي ضيق جداً. وهو يتراوح بين إعلان الرئيس مبارك ترشيحه لولاية جديدة، أي التمديد، أو التوريث بأسلوب مختلف عن الوراثة السياسية التي شهدتها سورية على سبيل المثال، بل الوراثة عن طريق الترشيح والانتخاب، والمقصود هنا بطبيعة الحال السيد جمال مبارك المدعوم من صفوف الحزب الوطني الحاكم. أما الخيار الثالث فيتمثل بشخصية أخرى ربما تكون خريجة المؤسسة العسكرية المصرية العريقة ولكن بثياب مدنية، أو ما يمكن تسميته بقيام فترة من السلطة الرمادية في مصر. ولا يمكن الحديث عن الرئاسة المصرية المقبلة من دون التعرض للموقف الأميركي، والذي بدا واضحاً من طرح دفتر شروط يجب اعتماده في الانتخابات المقبلة سواء من قبل الرئيس مبارك أو من غيره. وكان للزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى القاهرة أخيراً أكثر من مؤشر حرصت رئيسة الديبلوماسية الأميركية على طرحه بشكل أو بآخر ومن ذلك الانفتاح على التيارات المعارضة الأخرى ومنها حركة الإخوان المسلمين والحرص على التبشير بضرورة احترام الحريات العامة لكل التحركات السياسية. ويرى بعض الأوساط أن بعض الإيحاءات والإيماءات الأميركية في هذا الاتجاه أو ذاك لم تؤثر سلباً في حظوظ الرئيس مبارك في التجديد كما أنها لم تؤثر إيجاباً بالنسبة لمرشحين آخرين محتملين. وكأن واشنطن أرادت أن تبقي الضغوط المعتادة على القاهرة لانتزاع بعض الشروط السياسية في المرحلة المقبلة. وفهم أن الرغبات الأميركية تمنت ضرورة تعيين نائب لرئيس الجمهورية في المرحلة المقبلة، كما أصرت ولا تزال على مواكبة مراقبين أميركيين أو دوليين أو من الجانبين للانتخابات المقبلة. وكان هذا الطلب مثار أخذ ورد ومدّ وجذر كبيرين بين السلطات المصرية والأميركية حيث اعتبرت القاهرة هذا الأمر انتقاصاً من سيادتها. ولكن لوحظ في الآونة الأخيرة صدور بعض الأصوات القريبة من السلطة التي تعلن قبول هذا الشرط حتى لا يفسر الإصرار على رفض المراقبين وكأنه تهمة بتزوير هذه الانتخابات. ومن طبيعة عملها أعدت الدوائر الأميركية مجموعة من الملفات عن القضايا وعن الأشخاص استعداداً للمرحلة الآتية، لأن مصر تبقى في ظل أي رئيس حاكم البلد المحوري في المنطقة الذي لا تتفق معه على كل شيء لكنها لا تعارضه في كل شيء في الوقت نفسه. وفي رأي الإدارة الأميركية البوشية شعار تردده وهو التالي: أن مصر كانت الدولة العربية الأولى التي عقدت معاهدة سلام مع إسرائيل، وأن على مصر أن تكون تلك الدولة التي ستُشيع أَجواءَ الديموقراطية في العالم العربي بدءاً منها بالذات. وإذا كانت الديموقراطية على الطريقة الأميركية تقضي نشر كل شيء على العلن وإسقاط نظريات الحكم على الطريقة العربية التقليدية فإن كلاماً كالذي نشر في بعض الصحف المصرية يؤدي الغرض. وعلى سبيل المثال لا الحصر نقرأ لمجدي مهنا في «المصري اليوم» ما يأتي: ان الفساد انتشر وتغلغل في كل أنحاء الجسد ولم يعد يصلح معه شفاء أو إصلاح إلا بعملية جراحية كبرى. أما اسلوب الإصلاح وطريقته خطوة خطوة فهي التي كرست الفساد وزادت من شوكته بحيث أصبح حزب الفساد هو الأقوى حالياً بين مؤسسات الدولة، ان المسؤولية في النهاية هي مسؤولية نظام الحكم وتأتي في المقدمة مسؤولية رئيس الدولة فهل يعلم رئيس الدولة بما ينشر ويقال؟ وأهمية مثل هذا الكلام في أنه يكتب وفي أنه ينشر وأنه يقرأ ولو من دون أي رد عليه. وفي المحصلة الأخيرة لا يمكن للمراقب المنصف وهو يجري مراجعة شاملة لما حققه حسني مبارك خلال ربع قرن من الإقرار بالعديد من الإنجازات التي نقلت مصر من عصر إلى عصر، وربما لكثرة ما فعل الرجل فإن أجهزة الحكم التي تعاقبت استغلت حالة عامة من تفشي الرشاوى والفساد وكل ما يتبع هذه الآفات من تبدلات وتغيرات في معظمها غير صحي وغير صحيح بالمقاربة مع التركيبة العامة للشعب المصري. ويقول أحد المتابعين عن قرب لمسيرة حكم مبارك أن الرئيس لا يمكن أن يكون متغاضياً عن المعرفة بكل أو بعض ما يجري لكن الوضع خرج عن السيطرة. وفي اعتقاد أركان السلطة أن الإنجازات تفوق الإخفاقات وأن المشاريع تفوق الصفقات وأن ما تنعم به مصر اليوم من تقدم قياساً بالماضي ما زال يحسب لمصلحة الحكم بكل المقاييس. أما مواضع الهدر والرشاوى والفساد فحيثما وجد بشر ومال وجدت مثل هذه الآفات! وفي بلد يزيد عدد سكانه واحداً كل 24 ثانية وفق الإحصاءات الأخيرة تبدو وضع الأمور تحت قبضة السيطرة التامة كالبحث عن الجمهورية الفاضلة وسط الغابات والأدغال الكثيفة الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود! أما الحاشية فهي في كل عصر وفي كل زمان ومكان وإذا كانت مثل هذه الوقائع لا تبرر سيل المخالفات والارتكابات على مختلف المستويات فإن عملية الإصلاح المنشود تبقى مهمة بالغة الصعوبة والتعقيد بعد موجة الاستشراء التي تكاد تعم الأجواء. والمعادلة القابضة على الوضع العام في مصر مكن حصرها رغم صعوبة هذا الحظر بالتالي: فإن الرئيس حسني مبارك أدى لمصر خلال ولاياته المتكررة العديد من معالم التقدم والتطور واستقدام الاستثمارات والمساعدات المالية وإقامة المشاريع العملاقة، بالإضافة إلى إقامة شبكة كبيرة من العلاقات الودية مع مختلف أنحاء العالم، لكن إرضاء مجتمع متنوع ومتعدد ومعقد كالمجتمع المصري غاية يصعب بلوغها ومرتجاها. وفي المقابل يجب الاعتراف بأن جميع الطامحين لمنصب الرئاسة في مصر لا يملك أحدهم فرادى أو جماعات برامج متكاملة للإصلاح والتغيير والتطوير والتحديث سوى توجيه الانتقادات اللاذعة لما هو قائم وهذا هو المأزق: الاستمرارية بالوضع بما له وما عليه مع إجراء بعض الإصلاحات الجزئية من حين لآخر أو المقامرة بالمجهول! غير مضمون العواقب. ورغم ضجر المواطن من طول أمد إقامة الحاكم في السلطة ونزعته الطبيعية في التذمر، فعندما يعلم أن أي خيار جديد قد يوقع البلاد في مجهول، فإن هذا المواطن يتردد في قناعاته وفي نغمته على الأوضاع القائمة ليرضي بالموجود والمتاح. ويبقى لمراقب يحب مصر ويريد لها المنعة والقوة ومتابعة الدور الريادي الذي كتب عليها والذي كتبته على نفسها منذ ثورة الثالث والعشرين من تموز (يوليو) 1952 وحتى اليوم ولو بمراحل وأساليب مختلفة، أن تستعيد هذه الريادة بالمزيد من الرفاهية النسبية لغالبية شعبية كبيرة تسحقها الضغوطات اليومية، مع تواصل الاستقرار الحر البعيد عن كبت الحريات، مع أن الفوارق كبيرة بين الأمس واليوم لكن معالم مصر والمنطقة ومصر في الطليعة من مرحلة تغير طبيعي وحالة عبور من حال إلى حال رغم كل ما يحيط بالمنطقة من التوتر ومن التعثر ومن غياب في الرؤية ومن الاحباطات والاخفاقات. ... حتى يبقى النيل الأزرق رقراقاً بعذوبة وانسيابية هادئ المزاج على سطحه وثابت الاستقرار في عمقه، ولتبقى مصر قوة للمصريين وللعرب جميعاً. لا أحد يجب أن يفرح لأي وهن في موقف مصر ولا في ضعف لديها أو في أي تراجع لدورها الإقليمي والدولي، وسط حال الفراغ المخيف المهيمن على المنطقة. ----- صحيفة الحياة اللندنية في 10 -7 -2005