المشهد المثير المؤلم الذى عرضته للنائب العام بعض القنوات الخليجية المعادية وهو يتحرك بصعوبة بين المتجمهرين من أعضاء النيابة أمام مكتبه؛ فى طريقه إلى الحمام لقضاء حاجته بعد احتجازه أربع ساعات، يعبر عن بشاعة أو مهانة غير مسبوقة تحدث فى حصن من حصون القانون والحرية والعدل، وحين تستمع إلى صوت نواب الوكيل العام المحترمين وهم يهتفون ضد الرجل الذى يمثل قامة شامخة ويقولون له: "ارحل. مش عايزينك"، فلك أن تتخيل ما يفعله العامة والدهماء حين يتظاهرون ضد رؤسائهم أو زعمائهم. ثم تخيل لو أن هذا المنهج الذى سار عليه السادة وكلاء النيابة المتظاهرون تحول إلى أسلوب اجتماعى يتحرك به المجتمع وطوائفه لتغيير رؤسائهم أو مديريهم أو انتزاع ما يرونه حقًا لهم دون التحاكم إلى القضاء والقانون.. ماذا سيكون عليه الوطن والقانون والقضاء؟! ينظر الشعب المصرى إلى الهيئة القضائية فى مجملها نظرة خاصة تقوم على التوقير والاحترام، ويضعها فى مكانة عالية متميزة، بوصفها ملاذه الأخير الذى يستخلص الحقوق ويعيدها إلى أصحابها. وظل الناس فى أشد عصور القهر والظلام يرون فى القضاء ضوءًا فى نهاية النفق المظلم، ولكن يبدو أن النظام البوليسى الفاسد البائد قد استطاع أن يُعدى بعض أطراف القضاء بفيروساته المؤذية، وأن يستقطب بعض العناصر الدنيوية التى آثرت رضا السلطة على رضا الله، فكانت ممارسات، وكانت أوضاع، وكانت مواقف.. وكلها تخصم من القضاء ولا تضيف إليه، وهو ما تجلى مؤخرًا فى وقوف بعض الجهات القضائية فى جانب جبهة التخريب المسماة بجبهة الإنقاذ الوطنى وتضم أنصار النظام الفاسد البائد والناصريين والشيوعيين والليبراليين، ظنًا منها أن هذه الجبهة هى التى ستغلب وتعيد النظام القديم وتقضى على الثورة والطهارة والعدل من خلال مشاغباتها ومظاهراتها وعبثها بأمن البلاد ومحاصرة قصر الرئاسة واحتلال ميدان التحرير والسيطرة على مفاصل البلاد. كان المفترض أن يظل القضاء مهما كانت الضغوط بمنأى عن المشاركة فى الخصومة السياسية، فهناك قطاعات عريضة مازالت تثق فى كلمة القضاء وترى أن هناك كثيرًا من القضاة الشرفاء الذين لا يكترثون بغير الحق والعدل مهما كانت الظروف المحيطة بهم. كانت مقاطعة بعضهم للإشراف على الاستفتاء وتعطيل المحاكم والنيابات أمرًا غير مقبول، من جهة يفترض أنها بمنأى عن الصراعات السياسية مهما كانت طبيعتها وأبعادها، وقد كان التعلل بموضوع الإعلان الدستورى حجة غير مقنعة، فكل الناس يعلمون أن المصادقة على الدستور تعنى سقوط هذا الإعلان وغيره من الإعلانات الدستورية. أى أنها كانت مسألة أيام، ولكن قضاة السياسة الذين تحالفوا مع الجبهة ظنوا أن حلم إسقاط النظام بات قريبًا، خاصة أن البدايات كانت مبشرة بنجاح هذا الحلم، حيث تم حل مجلس الشعب المصرى الذى انتخبه أكثر من ثلاثين مليونًا، بصورة مريبة لم تراع المواءمة والظروف الوطنية. كما كان حل الجمعية التأسيسية الأولى للدستور، ثم التبشير بحل الجمعية الثانية ومجلس الشورى والتلويح بالحكم بتزوير انتخابات رئاسة الجمهورية من علامات التسييس التى التصقت بالقضاء المبجل، ووضع الجمهور المصرى فى حال جديدة من القلق على الحصن العظيم الذى ظل طويلاً عصيًا على السياسة والسياسيين. وما بالك بقاضٍ كبير يجلس على منصة اجتماعية قضائية ويعلن بالفم الملآن من خلال غضبه على مجلس الشعب المنتخب: لو كنا نعلم أن الانتخابات ستأتى بهؤلاء ما كنا شاركنا فى الإشراف على عملية التصويت! وهو ما نفذه المذكور فعلاً بعد الدعوة إلى مقاطعة الإشراف على الاستفتاء، حيث تمت مقاطعة قطاعات كبيرة من القضاة للإشراف القضائى على التصويت فى الاستفتاء على الدستور بقصد تعطيله وإرباك الدولة وإدخالها فى حالة السيولة والفوضى! إن المؤسف حقًا أن يتفرغ بعض القضاة لمؤازرة جبهة التخريب التى ترفض الإسلام وتسعى لإعادة النظام المستبد الفاسد من جديد، ويوجه فى مؤتمراته إنذارات إلى الرئيس والأغلبية التى ساندها الشعب من أجل تحقيق ما يريده، وإلا فإنه سيفعل ما يهدم كيان الدولة فضلاً عن تدويل القضايا التى يريدها. يعلم الناس أن الدستور يحقق العدالة بين طوائف المجتمع فى مجالات عديدة، وفى مقدمتها التعيين فى الوظائف، والأجور الدنيا والعليا، وهو ما يسبب إزعاجًا لمن يؤمنون بالتوريث فى الوظائف، ومن يرون أنهم آلهة لا تسأل عما تفعل، ومن حقها أن تتقاضى أجورًا لا حد أقصى لها، ولذا آلمهم أن ينص الدستور على المساواة والتكافؤ. وأعتقد أن القانون أو القوانين التى ستنشأ بناء على الدستور الجديد ستطيح بكثير من الامتيازات الحرام التى كانت تستمتع بها بعض الجهات والطوائف، ولذا فالمعارضة شرسة، ولأنها لا تستطيع الحديث عن هذه الامتيازات مباشرة؛ فهى تضرب فى جبهات أخرى مثل: النائب العام، والاستفتاء، وقرارات الرئيس. وأظن أنه بدأت تتكشف بعض الأمور التى تشير إلى خلل غير هين فى التعيين بالنيابات والجهات المشابهة، وقد نشر مؤخرًا على سبيل المثال أن بعض الأشخاص لم يتم تعيينهم فى النيابة بينما تم تعيين آخرين من أبناء المستشارين مع التساوى فى التقدير، وربما مع تفوق المحرومين على المستفيدين. فى الدستور الجديد, ابن المستشار لن يصبح مستشارًا؛ لأن الدستور الجديد كفل لأى شخص أن يتظلم ويحصل على حقه. لقد نشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعى وظهر فيه بعضهم يناقش خطط تعيين المتقدمين للتعيين فى النيابة وهم حاصلون على تقدير 65% فيما فوق, وتم استثناء أبناء المستشارين, ومعهم 40 بنتًا وولدًا. وتم الاتفاق على تعيين الأبناء مع عدم حصولهم على الدرجة المطلوبة, وعلى حساب الفائقين، وقال أحدهم "أنا ميهمنيش إيه العواقب, يتظلموا أو يطعنوا, إن شاالله تقوم ثورة تانية من جديد". لا أظن تسييس القضاء وتحالف بعضهم مع جبهة التخريب يمكن أن ينشئ وضعًا استثنائيًا لهم أو يعمق مكانتهم لدى جموع الشعب المصرى، الذى يرى القضاء حصنًا عظيمًا للحق، ويمثل قدوة فى العدل والحياد والتعفف.