لقد ارتضى المصريون اليوم الاستفتاء على الدستور حكمًا ليفصل بين المؤيدين والمعارضين. وتلك شريعة المتخاصمين، فما لم يتصالحوا ويتوافقوا على شيء يرضى جميع الأطراف، فلا بد من حكم بينهم، وإلا تشاحنوا وتشاجروا وصعدوا فى الشر والعنف ليكون السيف والقتل حكمًا بينهم؛ فهذا عين السف والضلال. ولقد أدهشنى بعض مَن يتحزبون مع جبهة الإنقاذ الوطنى اليوم وهو يجيب عن سؤال حول غياب الدكتور البرادعى والأستاذ عمرو موسى والسيد البدوى وغيرهم، فقد كشف عن الانقسامات الكبيرة بين أعضاء جبهة الإنقاذ بسبب الاستفتاء على الدستور بين مؤيد ومعارض، فقد تناقضوا فيما هم فيه. ولكن – ما كنت أتخيل أن يصف نفسه ومن هم على شاكلته من المعارضين بأنهم هم القوى الوطنية، ذلك فى معرض كلامه عن سبب تغيبهم عن حضور دعوة القوات المسلحة لاجتماع لم الشمل للأسرة الوطنية، فقد سمى نفسه ومن معه من المعارضين بالقوى الوطنية فى مقابلة المؤيدين، فكأن المعارضين هم الوطنيون، أما باقى القوى السياسية والتيارات الإسلامية المؤيدة للدستور والاستفتاء ليسوا كذلك، فهل يعنى أنهم مخربون أو خونة متآمرون مثلهم مثل فلول النظام السابق؟ شيء يدعو إلى العجب والدهشة، فهاهم يقعون فيما يعارضون فيه التيار الإسلامى والإخوان المسلمين، فقد احتجوا كثيرًا على تسميتهم الإخوان المسلمين بحجة أننا جميعًا مسلمون.. وهذا حق يراد به باطل..! وعمومًا، الاختلاف واقع بين السياسيين فى كل عصر ومصر، فكل جماعة وحزب يريد أن يظهر تناقض الآخرين حتى يفسح لنفسه المجال والفرصة لينقض على فريسته، أقصد على سُدة الحكم وكرسى الرئاسة، فقد بات مفتوحًا بابها، ولكن – لا يقبل أن يكون ذلك بالتصعيد والعنف، فلا مناصَ من الشرعية الدستورية والقانون. وهو ما يستلزم ضرورة الإسراع بالاستفتاء فى موعده، بنعم أو بلا..! ولا شك أن الاختلاف بين بنى الإنسان قديم قدم وجودهم فى الأرض، فمنذ أن هبط آدم عليه السلام وزوجه إلى الأرض، لم يتركهما الشيطان لحظة واحدة يخلدان إلى الألفة والوحدة والتوافق، بل أشاع بينهما الاختلاف والفرقة والشقاق بدلًا من الوحدة والتراحم والاتفاق. ولكن – العقلاء فيهم كانوا دومًا يجدون حلًا لحسم الخلاف: إما بتحكيم العقلاء. أو تحكيم الشريعة ووحى السماء. لقد قرّب كل من قابيل وهابيل ابنى آدم قربانًا، والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من عمل أو شيء حسيّ. وقبول هذا القربان والعمل وهو من أعمال البر كما يقول الشيخ متولى الشعراوى فى خواطره، فيعد قبوله سرًا من أسرار الله. والخلاصة أن خلافًا قد وقع بين الأخوين قابيل وهابيل، فقد اختلفا فى أمر ما، فلما احتد الخلاف بسبب الشبهة التى لقابيل ضد الشبهة التى لهابيل، فلم يقتنع كل صاحب شبهة بحجة الآخر؛ ذهبا إلى تحكيم السماء والشريعة المنزلة فيهما. إذن القربان كان هو الأسلوب الأفضل المعمول به فى شريعة آدم وقتئذ، فجاء حسمًا لموضوع الخلاف وحكمًا فى المسألة المختلف حولها. ونحن فى عصرنا الحديث نجرى قرعة عندما نختلف على شيء، فيلجأ إليها الناس حتى لا يقع إنسان لهوى إنسان آخر، بل يرضخ الاثنان للقدر، فيكتب كل منهما ورقة ثم يتركان ثالثًا يجذب إحدى الورقتين. والقرعة كانت الحكم الفصل فى اختيار بابا الكنيسة من أيام قلائل مضت رآها الناس على شاشات التليفزيون. عمومًا فقد كان قبول القربان من أحد الأخوين دلالة على أنه على حق فيما رآه وما ذهب إليه، يعنى وجهة نظره شرعية وموقفه صحيح فى نظر القانون. ولما كان الشرع وتحكيم السماء لا يستطيع أحد أن ينقضه، فلا بد من حكم فصل بين المتنازعين، لا بد من شريعة لا تتبدل ولا تتغير وتكون صالحة فى الزمان والمكان. أما الذين يتنازعون على السلطة وكرسى الرئاسة، فليس طريقه العنف والنار والقتل والمولوتوف، بل طريق كرسى السلطة والبرلمان ومجلس النواب أو الشورى والمحليات وغيرها من النقابات والاتحادات ليس العنف والرفض والقتل وقذف الحجارة والمولوتوف..! ليس أمامنا حل لمشاكلنا جميعًا إلا التحكيم إلى الصندوق والاستفتاء على الدستور استكمالًا للمسار الديمقراطى الذى بدأناه ونؤسس له منذ ثورة 25 من يناير وحتى الآن. نعم، ليس أمامنا ثمة طريق آخر سوى الديمقراطية السليمة التى يتشدق بها المعارضون من أمثال البرادعى دون أن يقبلوها حكمًا وحلًا، فالديمقراطية تفصل بين المتنازعين عن طريق الصندوق. وأنا أسأل الرافضين للديمقراطية وحكم الصندوق: هل تخافون الشعب؟ أم أنكم لا تعترفون بالإرادة الشعبية حكمًا؟، فلماذا لا تنزلون على حكم الإرادة الشعبية والصندوق فى الاستفتاء وغيره من الأمور المختلف فيها؟ لم نر أحدًا تحاكم إلى السيف والمدفع والمولوتوف إلا سفهاء الناس ممن قبلوا بحكم الغاب وتترسوا بالشتائم وقذف الحجارة والسباب. وكان ذلك كثيرًا متبعًا فى البيئات التترية المتوحشة والمجتمعات الجديدة التى ليس بها دولة ونظام أو قانون مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية قبل وحدتها، فقد كان المبدأ فيها دارونى (البقاء للأصلح)، فلا عيش فيها إلا لمصاصى الدماء، فقد قامت على استئصال الهنود الحمر من بلادهم كما يحاول اليهود فى فلسطين، فقد كان المسدس والقتل والرصاص المصبوب هو الحكم والقانون بين رعاة البقر والكاوبوى والمحتلين الغاصبين. أما البيئات والأسر والمجتمعات والدول ذات الحضارة، فلها نظم حكم وقوانين وشرائع ترجع إليها، فلا تتعداها إلى ما يخالف شريعتها وقوانينها. (والله غالب على أمره) [email protected]