وصف المتنبى بأنه شاعر الحكمة، والحكمة كما فى بعض تعريفاتها التى ساقها اللغوى الشهير الجرجانى أنها "علم يُبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هى عليه فى الوجود"، فحقائق الأشياء يبدو أنها مع مرور الزمن، ولوثة الثقافات، وانحدار الفطرة مما توجّب علينا دراسته وإتقانه ومعرفته وحفظه؛ فسرعان ما كشف لنا التاريخ عن طبقة المهرجين من أصحاب الألسنة المعسولة التى يمكن بمنتهى اليسر أن تخدع الجماهير العريضة لتؤكد لهم أن الباطل هو الحق! من الحكمة قول الحكيم المتنبى فى بساطة وعمق بيته الشهير: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته*** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا! الثورة المصرية ما قامت فى الأساس إلا للقضاء على كل لئيم اللسان والعمل، لكن فى خديعة واضحة، واستغلال خبيث للزمن تم صنع حالة من الفبركة الإعلامية على مدار أشهر متواليات غرضها تمثّل فى عملية تخدير واسعة النطاق، فظهرت قنوات إعلامية بعد الثورة بأشهر قليلة لتكون قاطرة الثورة المضادة إلى الآن؛ وقد نجحت فى معارك عديدة! ليس ثمة ما يقال عن سياسة الرئيس مرسى تجاه دولة حسنى مبارك سوى أنها سياسة اللا سياسة، هكذا بوضوح دون تبرير أو تسفيه لمجهود الرجل، وهو والله نحسبه من المخلصين أصحاب الأخلاق العالية، يكفى أنه الرئيس الوحيد الذى أتاح حرية التعبير بصدق، حتى بات شتمه وسبّه يوميًا فى إعلام بنى ليبرال وحتى الإعلام الحكومى من الدلائل على هذه الروح الرياضية العالية. إن الإسلاميين وهم أغلبية الشعب حقيقة، قد استغوتهم القوى الليبرالية، لقد استغواهم منطق التوافق، منذ أن أعلن الإخوان بعد قيام الثورة بشهرين أو ثلاثة أنهم ليس لهم مرشح للرئاسة، وأنهم سيتوافقون مع القوى "المدنية" على اختيار رئيس "توافقي" كان أبرز أسمائه وقتها منصور حسن أو البرادعى أو حتى عمرو موسى!!! لكن سرعان ما اكتشفوا أن التوافق خديعة، وأن منطق الغرف المغلقة الذى قلّم أظافرهم جاء ليعلن عن أحمد شفيق مرشحًا للانتخابات الرئاسية، ثم سرعان ما اكتملت سريالية المشهد ليدخل عمر سليمان مرشحًا للانتخابات الرئاسية، ثم سرعان ما استبعدوا حازم أبو إسماعيل وخيرت الشاطر فى تجسيد لمشهد الممثل القائل: "البلد بلدنا والدفاتر دفترنا".. ولولا إظهار رمقًا من القوة لأُعلن عن فوز شفيق بأى حجة من الحجج! المهم نجح مرسي، وفشلت إدارته حتى الآن في: عملية المحاسبة الحقيقية لكل فاسد قتل أو سحل أو عذّب أو أجرم فى حق هذا الوطن على مدى ستين عامًا سوداء.. عملية تطهير الجهاز الإدارى الفاسد المليء باللصوص والمرتشين. عملية حماية الثورة ومكتسباتها ولو حتى بقانون وهو يملك السلطة التشريعية. عملية سيادة القانون على كل متجرئ يناطح الدولة فى اختصاصاتها وعلى رأسها الكنيسة التى تمتنع بمنتهى الوضوح عن الإذعان لرقابة الدولة على الأموال والكنائس. عدم الاستعانة بالعناصر الثورية الحقيقية فى إدارة الدولة الجديدة واستغلال "مرحلة التحول الديمقراطي" فى التأسيس لدولة ونظام قويين ما يعنى تضييع الوقت والمال والحرث فى البحر. التنازل عن بعض اختصاصاته كقائد أعلى للقوات المسلحة لوزير الدفاع بدون أى سبب وجيه. السكوت عن إهانته والتطاول عليه منذ أشهر فى الإعلام، فإهانته ليست إهانة شخص، وإنما الغرض منها سهولة خلعه إن حدث انقلاب أو أى مظاهرات لا قيمة لها!. السكوت وعدم إبداء الرأى على مصيبة الاختصاصات الفاحشة لمجلس الدفاع الوطنى والرقابة على أموال الجيش فى الدستور. السكوت عن عملية تمييع قضية الشريعة فى الدستور. السكوت عن بعض مشعلى الفتن فى القضاء، وعدم إدارة ملف النائب العام بشجاعة، وإقالته مطلب ثورى منذ قيام الثورة. إننا لا نطالب مرسى بما لا يستطيع، فحتمًا لن يتحرك خطوة للإمام طالما كان رئيسًا يدير الأزمات فى الغرف المغلقة، إن رئيس الثورة الذى كنا نأمله أردناه قائدًا يعتمد على الشعب فى معاركه، كنا ندرك أن ثمة معارك لا مناص منها فى مرحلة التحول من نظام فاسد إلى نظام عادل، لكن ما لم نكن نتوقعه أن يساعد الرئيس عناصر من النظام القديم لا تعرف للثورة معنى، ما لم نتوقعه من الرئيس السكوت عن عودة توحش الداخلية وعدم تطهيرها مرة أخرى وغير ذلك مما ذكرته منذ قليل. لطالما ضُربت الأمثلة على فشل الزعيم المؤمن صاحب الخُلق العالى إذا لم يكن حاسمًا؛ لقد كان المستعصم العباسى آخر خلفاء بنى العباس من حفظة القرآن ومرتادى المكتبات ومقربًا للرعية ومع ذلك كان ضعيفًا أمام النخبة الحاكمة المعاونة له، فكان مآله القتل بالنعال، وهو مثال من عشرات الأمثلة! إن الثورة لحظة زمنية غير اعتيادية، ولا يملك زمام اللحظات المفصلية واستغلالها الاستغلال الأمثل إلا ذوى الشعور بحقيقة الصديق وحقيقة العدو وألاعيب الدولة الأمنية المخابراتية، لكن التماهى فى رجالات الفكر السابق، والعهد السابق، والتذاكى عليهم بأن التدرج فى الإصلاح فى واقع لا يتحمل التباطؤ هو الحل، إنما هو الفشل عينه، لا أشعر الآن إلا بأننا نرتد على أدبارنا بعد بضع مكتسبات ظن علية القوم فى الإسلاميين أنها غاية المنى، ونهاية المطلب!.