وكل امرئ يَسعى إلى المجد جاهدًا = ولكن طريق المجد أكثره وَعْرُ هلمُّوا نُسابِق مَن لنا قد تقدَّموا = فنَعلُ علاهم أو نَمُرَّ كما مَرُّوا جميل الزهاوي نعم؛ طريق المجد أكثره وَعْرُ، بل هو أصعب الطرق، وأشدُّها، والسير فيه يعني تعريض النفس للمخاطر، بل يعني تعريض النفس للهلاك... للمجد والرفعة طريق واحد لا غير، هو طريق التعب والنصب والجهاد، طريق بذل الأموال والأرواح والنفوس في سبيل بلوغ قمة المجد نعم؛ هو طريق العمل الدؤوب على نشر محاسن الأخلاق ومعالي الأهداف، والترفع عن سفاسف الأمور، طريق الصبر واحتمال الأذى، طريق المجد اليوم هو النزول إلى الجماهير، ومُعايَشتها حلوَ الحياة ومرَّها، طريق المجد اليوم ليس الجلوس على قارعة الفضائيات من أجل التحرش الإعلامي بكل قرار يصدر من مؤسسة الرئاسة، أو التصيُّد في كل حادثة وبلوى تُصيب هذا الوطن العزيز، وليس طريق المجد في الجلوس ساعات وساعات على المواقع الإلكترونية، نعم؛ ليس المجد بالمناصب والكراسي الزائلة، بل هو بمُعايَشة الفقراء همومهم وأحلامهم، والعمل على تحقيق هذه الأحلام، والعمل على تحسين مستوى المعيشة، نعم؛ طريق المجد أن تتعب وتشقى طول النهار، ثم أنت في الليل تسهر لكي تُعدَّ العُدة لعمل الغد: لا تحسبنَّ المجْد تمرًا أنت آكِله = لن تَبلغَ المجدَ حتى تَلعَق الصبرا نعم؛ لن نبلغ المجد حتى نتخطى تلك الحواجز والعقبات بعزم قوي، وحزم أكيد، حتى نتغلب على أوهامنا، حتى نجتاز كل عقبة، ونرقى كل صعْب: ومَن يتهيَّب صُعودَ الجبالِ = يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ علينا أن نتعلم ونعي ونأخذ الدرس ممَّن سبقنا في هذا الطريق، ممن سادوا قومهم وعشيرتهم فكانوا نِعْمَ السادة ونِعمَ القادة، لم يَسودوا قومهم بسبب فراغ المنصب، وخُلوِّ الساحة مِن المنافسة الحقيقية "مثل عبده مشتاق بتاع نفسي أكون ريس"، ولكنهم سادوا؛ لأنهم أهل للسيادة، ضحوا بالغالي والنفيس من أجل أهليهم، ضحوا بأرواحهم وعرَّضوا أنفسهم للخطر والموت حتى تعيش أقوامهم عيشة هنية، وها هو أخو بني عامر وسيدهم وابن سيدهم "عامر بن الطفيل" يُحدِّثنا عن سيادته قومه، وعن بلوغه ذِروة المجد، نافيًا أن تكون تلك الرياسة والسيادة جاءته "وراثة"، وأيضًا لا أظن أن عشيرته اختارته للسيادة "فلتة"، أو أنه صارت له مكانة في قومه وقت "الهيصة"؛ يقول عامر بن الطفيل: وإِنِّي وإن كنتُ ابنَ سيِّد عامرٍ = وفارسها المَندوب في كل مَوكِب فما سوَّدتني عامر عن "وراثة" = أبَى الله أن أَسمو بأمٍّ ولا أبِ ولكنَّني أحمي حِماها، وأتَّقي = أذاها، وأَرمي مَن رَماها بمَنكِبي وتأمل في قوله: "أحمي حماها"، أصون ترابها بدمي، لا أستعدي عليها المجتمع الدوليَّ ليكتب لها دستورها، لا أُخيفُ المُستثمِرين من إقامة المشاريع فيها، لا أكون سببًا في خرابها، لا أُهدِّد بإشاعة الفوضى فيها، لا أعطِّل مصالحها ولا أستَغلُّ كوارثها مِن أجل تحقيق مصالِحَ سياسية دنيئة، ولا أحاول إفساد مُعتَقد أهلها من أجل هواجس وتخوُّفات لا مبرِّر لها... وقل ما شئت في "أحمي حماها". وتأمل قوله: "وأتَّقي أذاها"، أتقي أذى ما ألاقيه من أهلي مِن العنت والتضييق والغمز واللمز، بالصبر والحلم تارة، وبإظهار البأس - للذين لا يُجدي معهم الحِلم - تارة، أتقي أذى إعلام ظل يسبِّح ستين عامًا بحمد الشياطين، أتقي أذى إعلام ظل ستين عامًا يَلعَن كل طاهر، ويرمي كل عفيف شريف، أتقي أذى نخبة أدمَنت الركوع تحت البيادات الخَشِنَة، أتقي أذى مثقَّفين لا يعلمون عن الثقافة إلا أوكارها المَشبوهة وأموالها المنهوبة، أتقي أذى أولئك المثقَّفين برعايتي للمثقفين الحقيقيين الغيورين على تراث أمتهم، المثقفين الشرفاء الذين لم تُدنَّس أقلامهم، ولم تركَع حروف نورهم للظلمة والطغاة... "وأَرمي مَن رَماها بمَنكِبي" أذود عن حياضها كل غويٍّ مبين يُريد لها الهلاك والخراب، أقف في وجه كل غارة وكل عدوان عليها، أُقاوِم من يدنس عِرضها بنفسي، وبحجارتي، وبصواريخي، وأدافع عن ترابها وعن أبنائها المُخلصين حتى آخِر قطرة مِن دمي؛ لأنها بلد يُذكَر فيها اسم الله كثيرًا. لا يكون المجد إلا بالبذل والعطاء، ومُراعاة المصلحة العامة للأمة، لا يكون إلا بالنزول إلى الشارع والعمل الدؤوب على حل مشاكل المجتمع، والبعد عن الجدل والسفسطة، وترك "الهرتلة" الفارغة، وتنحية النزاعات السياسية جانبًا، لا يكون المجد بالبكاء على الأطلال، والنظر إلى الغرب نظرة المهزوم المغلوب، وأنهم هم القادة العظام الفاتحون، ولكن الأمر كما قال الرافعي -رحمه الله -: ولا خيرَ فيمَن إن أحبَّ دياره = أقام ليَبكي فوقَ ربعٍ مُهدَّم وقد طُويتْ تلك الليالي بأهلها = فمَن جَهِلَ الأيامَ فليتعلَّم وما يرفع الأوطانَ إلا رجالها = وهل يترقَّى الناسُ إلا بسُلَّم ومَن يكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضلهِ = على قومهِ يُستغنَ عنه ويُذَمم وفي آخر مقالي أحيي رجلين - أحسبهما مِن أبناء مصر المُخلِصين - ضرب هذان الرجلان المثال الرائع على أنهما حقًّا يُحِبان هذا البلد، ومواقفهما المشرِّفة تدلُّ على أنهما ينأيان بأنفسهما عن المهاترات السياسة الفارغة، ويعملان لمصلحة هذا البلد الطيب بحبٍّ وإخلاص وحِرص على مصلحته؛ هذان الرجلان أولهما صاحب الشعبية الجارفة الأستاذ الفاضل حازم صلاح أبو إسماعيل، والدكتور المحترم عبدالمنعم أبو الفتوح - رغم اختلافي معه - تحية إجلال وتقدير لهذين النموذجَين الرائعين. وتحية إجلال وتقدير لأبطال غزة الصامدة الأبية، ولأبطال سوريا الحرة الصامدة؛ على ما تتعلم الأمة منهم من دروس في الصبر والجهاد والعمل على رفعة الأوطان. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]