في اعتقادي ان ماشهدته مصر من ثورة شعبية عارمة اطاحت برأس النظام القابض علي دفة الحكم منذ ثلاثة عقود, أشبه بمعجزة في وقت لم يعد فيه أنبياء ولا أولياء, يسيرون علي الماء ويتجولون في السماء وتهتز من وقع أقدامهم الجبال الراسيات, وهذا هو مكمن التأمل وموطن الفخار, وسر مشاعر الانبهار التي عبر عنها عدد من السياسيين والمثقفين, وحتي المواطنين البسطاء علي مستوي العالم من أقصاه الي ادناه. نعم نجحت الثورة الشعبية العظيمة في تحقيق احد أهم شعاراتها وهو إسقاط النظام, والمدهش ان يجري انجاز هذا الهدف, الذي كان يبدو بعيد المنال أو برأي البعض من قبيل المستحيلات, تحت مظلة من المشاركة بصرف النظر عن وجود قدر مقبول من المغالبة والخبرات التنظيمية الممنهجة لجماعة الإخوان لجميع فئات وشرائح الشعب, من صغار وكبار ومثقفين وأميين وعمال وفلاحين. نعم الأمر مذهل ومدهش وجميل ورائع, ويمكنك اخي القاريء وصفه بكل مايقفز الي ذهنك, من صفات وألفاظ الاستحسان والإجلال والتقدير, لكن لاحظ أننا لم نحقق الهدف الاسمي, ولم نبلغك نهاية الطريق الصحيح, الذي ينبغي ان يقودنا الي شاطيء الأمن والأمان والرخاءوالاستقرار.. فالغاية ليست ولايجب ان تكون, مجرد ازاحة نظام وتفعيل شعار واحد, وإنما الأهم المساهمة بالأعمال لا بالأقوال في بناء نظام جديد, تكون مرجعيته المصالح الذاتية والجماعية لعموم المواطنين الجادين المجتهدين الشرفاء, ولن يتحقق هذا الا في اطار من الوعي الحكيم والفهم النافذ, والاستيعاب الكامل لتحديات المرحلة الراهنة, وتطلعات المستقبل القريب والبعيد. قد نختلف علي الأدوات والوسائل والأشكال والأنماط, لكن المقاصد العليا والآمال الكبري لايصح ان يشوبها اي جدال. نعم تحققت مكتسبات مهمة جدا للثورة الشعبية( ثورة25 يناير) وأهمها في تقديري, تحررنا من براثن الإذلال وأصفاد العبودية, وتخلينا عن إضفاء القداسة والألوهية علي كثير من الرموز السياسية والثقافية والدينية, لكن لايجب ان يقودنا هذا الي تمرد دائم, وانشقاق ابدي تسقط معهما المعايير السليمة, وتتهاوي امامهما الاطر المرجعية المتفق علي احترامها ونزاهتها. وفي هذا الصدد, لا غضاضة ان يتكلم الجميع حاليا في الأسواق والشوارع وحتي وسائل المواصلات, عن السياسة والفساد والوساطة والمحسوبية والبطالة التي تحول دون زواج الشباب والفتيات.. لكن العجيب, ان كثيرين ممن يتحدثون عن الفساد, لايحاولون اصلاح انفسهم, او يبادرون الي تقديم القدوة والمثل والتأكيد لذواتهم قبل الآخرين, سواء بالداخل او الخارج, أننا تغيرنا بالفعل, او علي الاقل ان لدينا نية صادقة ورغبة فعلية, باتجاه دوران عجلة التغيير الي الأفضل. فمثلا هذا الرجل الذي يعول ثلاث أو أربع بنات.. هل إذا جاءه شاب صالح ولكنه فقير, يمكن ان يوافق علي قبوله زوجا لاحدي بناته من دون تعقيد.. هل يكف سائق الاجرة عن استغلال الظروف ورفع قيمة البنديرة, بحجة حظر التجوال او الزحام المروري بالطريق.. هل يتوقف موظفو الدولة وأيضا القطاع الخاص, عن قبول الرشاوي لإنجاز مصالح المواطنين.. هل يمتنع التجار عن جشعهم ويتقون الله في ضمائرهم؟ متي نتذكر اليتامي والأرامل والمطلقات والمساكين.. هل يتخلي الشباب الطائش عن مغازلة الفتيات والسيدات في الطريق العام.. متي يعود كثير من المدرسين الي صوابهم, ويتقون الله في أولياء أمور تلاميذهم؟!!! طبعا الصورة ليست سيئة, والمشهد العام غير مقلق او مرعب, فهناك نماذج طيبة علي كل المستويات, لكن السياق الحالي يحتاج الي تدعيم وتعميم, بحيث تتجذر مباديء التكافل, وتتعزز اسس الحراك المجتمعي, الذي تشجع عليه مكاسب المرحلة الراهنة.. إذن الثورة الإصلاحية الفعلية لابد ان تكون في كل الاتجاهات, وليست في الناحية السياسية وحسب, والكلام لايجوز ان يكون مضحكا بينما الفعل مبك والعمل مخجل.. إن الابقاء علي جذوة الحالة الثورية التي يفترض ان تتمثلها الاغلبية التي كانت فيما مضي مستضعفة لن يتأتي سوي بالعمل الدؤوب والكفاح المستمر, والتحرك المحسوب, باتجاه المساهمة الفعالة في الأخذ بمتطلبات عملية التغيير, التي ينبغي ان تتم في جو من الحرية والديمقراطية, اللتين حرمنا منهما واقعيا ربما طوال السنوات الماضية, وعلي وجه التحديد منذ استتباب الامور, لبعض قيادات ثورة يوليو من العام1952. لا بأس بالصوت العالي, والنقاش المستنير, والجدال المفيد, ولكن بشرط الا يلهينا هذا عن العمل والنضال, والانسياق وراء بعض الفخاخ التي ينصبها لنا اعداؤنا بالداخل قبل الخارج, وهذه قضية اخري تحتاج في مقال جديد الي مزيد من التوضيح والتفسير. وياأيها الثائرون فعلا او ادعاء حقا او امتطاء لاتقولوا مالا تفعلون, كبر مقتا عند الله وعند عباده, ان تقولوا مالا تفعلون!