حينما تتأمل أقوال المؤرخ الإنجليزى أرنولد توينبى أحد أشهر المؤرخين فى القرن العشرين الميلادى من خلال موسوعته "دراسة للتاريخ" والتى جاءت فى اثنى عشر مجلداً، فى عزوه، نمو الحضارة إلى الحماسة المفعمة بالحيوية والنشاط التى هى الطاقة الكامنة لدى الفرد والمجتمع والتى تنطلق بغرض التحقيق الذاتى؛ وفى قوله إن الشخصية النامية أو الحضارة تسعى إلى أن تصير هى نفسُها بيئة نفسها، وتحدياً لنفسها، ومجال عمل لنفسها، أى أن مقياس النمو هو التقدم فى سبيل التحقيق الذاتى؛ وفى قوله إن ذلك يتم عن طريق المبدعين من الأفراد، أو بواسطة الفئة القليلة من هؤلاء القادة الملهمين، إذ تستجيب لهم الأكثرية عن طريق محاكاتهم والتى تمثل الطريقة الغالبة فى عملية الانقياد الاجتماعى. وعلى الجانب الآخر حين تتأمل عزوته سقوط الحضارات إلى ثلاثة أسباب هى ضعف القوة الخلاقة فى الأقلية الموجهة وانقلابها إلى سلطة تعسفية، وتخلى الأكثرية عن موالاة الأقلية الجديدة المسيطرة وكفها عن محاكاتها، والانشقاق وضياع الوحدة فى كيان المجتمع. حين تتأمل كل هذا تستنبط أننا أمام مأزق حقيقى، لأننا نريد حضارة ونتعامى عن أسباب قيامها ونتكاسل عن القيام بدورنا من أجلها. حين نتغافل عن هذا كأمة فنحن فى أزمة حقيقية. وحين نسير بلا هدف قومى معلن ومنظومة لتحقيق هذا الهدف فنحن إلى العبث سائرون. وحين نظن أننا بغير العلم سنحقق أى شىء فنحن جاهلون. وحين نسير بغير هدىً معلن واضح صريح يلتف حوله الكافة فنحن نقذف بأمتنا إلى المجهول. لقد سئمنا أن نكون مفعولا بنا ونتطلع أن نكون نحن الفاعلين ولكن هيهات إن لم نركن إلى صحيح العلم وسديد القول والذى هو بالضرورة مُعلَن. لن يجدى العمل إلا من خلال خطة لا إطار فكرى حسب ما أعلن البعض. هذا الذى يُقال عن الأمة يقال عن كل جزئياتها لنصل إلى لبنتها الأولى وهى الأسرة، بل يصل إلى أفراد الأسرة وإلى كل فرد من أفراد الأمة. والحديث عن الأسرة لا يشغل بالنا فقط فى بدايات النهضة، بل إن الأسرة وقيمها باتت تشغل بال مفكرى الغرب فى سياق البحث عن عوامل استمرار الحضارة الغربية. الأسرة والتى هى الخلية الأولى فى الشرق عوضاً عن الفرد الذى يتمحور حوله الفكر فى الغرب، هى اللبنة الأولى فى مجتمعنا ونظرة إليها سنجد أنها وصلت من التفكك ما لا يُحمد عقباه. فى غياب الحميمية الأسرية التى كانت تنشأ تلقائياً من خلال التواجد المتكرر اليومى بين أفراد الأسرة بَعُدَ الجميع عن بعضهم البعض، وازدادت الأمور جفاءً حينما اضطر رب الأسرة إلى الغياب عن الحياة الأسرية بالسفر للخارج لجمع المال أو بالعمل فترات إضافية بحثاً عن تلبية احتياجات الأسرة المادية وتطلعاتها. وبغياب رب الأسرة وبتغافل الزوجة والأم عن أهمية دورها المكمل والذى فى بعض الأحيان بات أساسياً، بدأ الخلل يدب فى نسيج الأسرة المصرية، وبتنا نسمع عن الأم المعيلة وبتنا نسمع عن دور المسنين وبتنا نسمع عن أطفال الشوارع وبتنا نسمع عن أمور ما كنا نتخيل وجودها فى المجتمع لولا تفكك الأسرة المصرية، قليلة هى أسرنا ذات التوجه وكثيرة هى منازلنا التى أصبحت كالفنادق! لقد تفككت أغلب أنماط حياتنا الأسرية لصالح الأنانية المطلقة، فلم تعد أغلب الأسر المصرية محور حياة أفرادها، وباتت بالتالى فريسة لأوهام الحلم السريع والثراء الفاحش وللجريمة التى أتمنى ألا تصبح منظمة يوماً ما. لقد استوردنا من الخارج أساليب معالجتهم للأمراض الاجتماعية التى نشأت من تفكك أسرهم وبزوغ قيمهم الفردية والتى يحذرهم منها مفكروهم حتى لا تتقوض مجتمعاتهم. الأمر كما يقول توينبى يحتاج فى كل المجتمعات إلى قدوة وهى أمور صعبة وسط رغد الحياة الغربية. كما أن محاولة حل إشكالية الحفاظ على الدولة القومية باتت صعبة فى الغرب مع وجود من يغض الطرف عن جذور أمراض الحضارة فهذا هو الفيلسوف الأمريكى صموئيل هنتجنتون فى سياق بحثه المعنون "صدام الحضارات"، يحاول أن يجمع شمل الغرب فى عدو خارجى بدلاً من أن يحاول إصلاح البنيان الداخلى للحضارة الغربية. ورغم أن هذا المفكر اهتم بعد ذلك بالشأن الداخلى الأمريكى فى كتابه من نحن؟، إلا أن تلك المعالجة لم تجنح إلى أساس القضية حيث يحاول أن يحيط مجتمعه بسياج دون الدخول فى تشريح مشاكل المجتمع فهو يدرس التحديات التى تواجه أمته على المدى البعيد الذى يمكن أن تؤدى إلى تقسيم أمريكا إلى دولتين بثقافتين وبلغتين مختلفتين. وهذا الفكر وإن كنت أستغربه إلا أن له وجاهته من منطلق قومى أمريكى يرى الخارج تحدياً للداخل الذى لم يتم صهره بالكلية فى أمة حديثة العهد. قضية الحفاظ على الوطن آنياً ومستقبلاً محل إدراك فى الغرب ولكننا هنا نتغافل عن أمثالها. يحضرنى فى هذا السياق أن المادة الثلاثين من مواد الدستور المقترح ترسخ لتقسيم مصر الموحدة منذ عهد مينا حيث تنص على أنه لا تمييز بين المواطنين بسبب اللغة أو الدين أو العقيدة أو... وكأننا نضع لغماً لتفتيت الدولة، فاللغة العربية لغة المجتمع بكل أفراده وطوائفه والنص على عدم التمييز نتيجة اللغة سيفتح باباً كبيراً لتقسيم المجتمع بدأ بالفعل من خلال المناداة بالأمازيغية فى الصحراء الغربية وبالنوبية فى الجنوب وبغيرهما، ويفرغ المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن اللغة العربية هى اللغة الرسمية من محتواها. كما أن النص: الدين أو العقيدة، يعنى التغاير، فما هو الاختلاف بين الاثنين؟ هذا النص لغم آخر حيث لم يتم تحديد الفرق بين الدين والعقيدة. هل العقيدة هى عبادة الشيطان مثلاً؟ هذه المادة قنبلة موقوتة ستؤدى إلى تقويض المجتمع بتغذية الدعوات الانفصالية التى نجد خرائطها منتشرة على شبكة الإنترنت من خلال أعمال مراكز الاستشراق الخارجية. أنضع قنابل فى الدستور بأيدينا ولا ننظر إلى الغرب القوى الذى يسعى لتقويض أى عامل يؤدى إلى إضعاف أواصر الترابط الداخلية فى مجتمعه كما ذكرها هنتنجتون؟ القضية تحتاج إلى وقفة فهل نحن مستعدون؟ ألنا أن نستوعب مقولات توينبى علنا ندرك أننا نحتاج إلى تدارس ما ذكره من عوامل النهضة: قدوة وقيادة وحماسة ومبدعين وقادة ملهمين؟ فلنبحث عن كل ذلك لندرك وقع أوهامنا وليس أقدامنا. أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر