ما الشيء الذى يلقيه الفقير فى الشارع بينما الرجل الغنى يحرص على وضعه فى جيبه؟.. إنه ببساطة "البصاق"؛ فالرجل الفقير يتمخض ويلقيه فى الشارع، أما الرجل الغنى فيخرج "منديلاً" ثم يعاود وضعه فى جيبه.. فالفقراء لا يبالون، ولا ينتمون، ومن ثم لا يشعرون بالولاء.. وكيف يفعلون وهم يسمعون عن التنمية، ولا يجنون من ثمارها شيئًا! ويرون فوارق طبقية رهيبة لا تقرها عدالة الإسلام الذى يُشَرّع التكافل الاجتماعى كالتزام على الأفراد تجاه الفقراء، ويُشَرّع الضمان الاجتماعى كالتزام على الدولة تجاههم، ولا يسمح بالغِنَى لأحد إلا بعد أن ينال أضعف فرد فى المجتمع حد الكفاية لا حد الكفاف! إن الرجل الفقير ليس هو الرجل الغنى مطروحة منه الأموال.. بل مطروحا منه قبل الأموال منظومة القيم التى كان من الممكن أن يتعلمها لو لم يكن فقيرًا قد نال حقه فى تربية جيدة.. فالفقر علاوة على ما يمثله من انغماس الناس فى البؤس، فهو كذلك يمثل إهانة للكرامة البشرية، ويفتئت على طائفة كبيرة من حقوق الإنسان يأتى فى مقدمتها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. لنجد فى النهاية الكثير من الفقراء يعيشون عبيدًا للحاجة بدلا من أن يكونوا عبيدًا لله وحده! وحيث إن الأخلاق تعنى السلوك، وأن سلوك الإنسان إذا ما كان سلوكاً أخلاقياً كان وراءه بالضرورة قيمة أخلاقية.. فإننا لا نقصد من وراء هذا المقال البرهنة على أن الفقراء يسلكون بطريقة لا أخلاقية بينما الأغنياء يسلكون بطريقة أخلاقية.. لا .. بل ما نرمى إليه هو الكشف عن بعض القيم الحاكمة على سلوكيات الفقراء.. علنا نتداركها تربويًا وإعلاميًا ودعويًا، والأهم هو السعى للقضاء على الفقر ذاته عبر وسائل إبداعية ذاتية أكثر من مجرد السعى لجذب استثمارات من هذا البلد أو ذاك! فنحن الفقراء نميل للتلامس الجسدى والتدافع فى كل مواطن الزحام المحيط بنا.. فداخل المدارس الحكومية يتدافع طلابنا ويتقاتلون فى أول أيام الدراسة للفوز بالمقعد الأول!.. وأمام المخابز فى طوابير الخبز نتلاصق، وعند مستودعات البوتاجاز وداخل الأتوبيسات والقطارات نتلاحم! .. ونتشاجر .. كل ذلك رغم أن للجسد البشرى حرمة عدم المساس به دون إذن صاحبه!.. فهل "الأنانية" كقيمة لا أخلاقية هى المسئولة عن هذا التدافع والتلاصق الجسدى؟ نعم .. إنها كذلك .. ولا أظن نظام التعليم بمنأى عن الاتهام، فمَن منا لا يتذكر المعلم يسأل طالب ما سؤال ما، وقبل أن يجيب الطالب يندفع باقى الطلاب فى صراخ مجنون: "أنا أنا أنا أنا .." والمعلم لا ينتبه للجرم الواقع على حق هذا المسكين الذى اختاره فى أن يتعلم، وأن يحاور، وأن يتم السماع لرؤاه بل واحترامها، ومناقشته فيها.. فشب معظمنا وشعاره فى الحياة: أنا ومن بعدى الطوفان .. أنا فقط صاحب الحقوق!! يقول الإمام أبو حنيفة "لا يستشار من ليس فى بيته دقيق".. ويقول المفكر الجزائرى "مالك بن نبي": "كيف أصلى وأنا جائع؟!".. بما يعنيه ذلك من أن الذى لا يجد حد الكفاية لتأمين احتياجاته الإنسانية.. كيف له أن يفكر؟ وكيف له أن يكون رأيا؟ وكيف له أن يعبر عنه؟ كيف له أن يراعى حق الخصوصية للآخرين وخصوصياته منتهكة فى العشوائيات؟ أنى له الاستعفاف عن محارم الله وحقه فى الزواج والسكن والعمل والأجر العادل محض سراب ؟! فنحن الفقراء نلقى المخلفات فى الشارع.. نبصق فى الطرقات.. نتبول على الجدران.. وفى ذات الوقت نردد "النظافة من الإيمان، والله جميل يحب الجمال"!.. نزعج الجيران بمكبرات الصوت فى الأفراح والمآتم!.. وبصياح الأطفال فى الشوارع ( والحجة البليغة لدينا أنهم يلعبون فى شارع الحكومة!) ونحن نردد: "النبى وصى على سابع جار"!.. نلقى مياه الشرب النقية على الأرض لزوم تكييف الجو!!.. نقدم العاطفة على حكم العقل.. نخترق القانون ثم نهدر كرامتنا كى لا نحاسب!.. نقول لضابط الشرطة يا باشا!! .. لا نعرف حقوقنا ولا نلتزم بواجباتنا!.. ندس أنوفنا فيما لا يعنينا.. نجلس فى الطرقات ولا نعطى الطريق حقه.. ونبحث عن الأمان ولا نجده!.. وننتظر الاستفتاء على الدستور لندلى بدلونا فيه!!. [email protected]