لاتزال أصداء الانتخابات الرئاسية المصرية تتردد في جنبات العالم العربي، الذي حفلت صحفه بتعليقات عديدة على مشاهد التجربة وإجرائها وهذه التعليقات التي انبنت على رؤية من الخارج هي التي دفعتني إلى الدخول في الموضوع، لاقتناعي بأن إخراج الحملة الانتخابية لمرشح الحزب الوطني الحاكم أريد به مخاطبة الرأي العام العربي والدولي، وإحداث الأصداء التي وقعت بالفعل، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن الانتخابات في هذه الزاوية كانت للتصوير بأكثر منها لإثراء التجربة الديمقراطية في مصر.. كيف؟ عند تقييم التجربة لا يستطيع الباحث ان يتجاهل عدة أمور، أولها أن الهدف النهائي لها كان تمديد فترة حكم الرئيس مبارك، لولاية خامسة، يبقى بمقتضاها في السلطة لمدة ثلاثين عاما، وثانيهما أن نتائج الانتخابات كانت معروفة سلفا، ولم يكن هناك شك في أن الرئيس المصري سيحقق فوزا كاسحا، وثالثها ان كل أجهزة الدولة، والجهاز الإعلامي الرسمي وشبه الرسمي في المقدمة منها كان انحيازها كاملا للرئيس مبارك، رغم أنها أتاحت «لمنافسيه» فرصة الظهور على المنابر الإعلامية، من باب تحسين الصورة وإحكام إخراج المشهد، والدور الذي قام به الجهاز الإعلامي لم تقصر فيه أجهزة الإدارة في المدن والقرى، فمصلحة الضرائب مثلا طالبت الممولين بأن ينشروا إعلانات التأييد في الصحف القومية، على أن تخصم قيمتها من ضرائبهم، كما أن أجهزة الحكم المحلي والبلديات طالبت أصحاب المحلات التجارية بنصب الإعلانات في الشوارع والميادين الرئيسية، والجمعيات التعاونية في القرى نقلت الرسالة للفلاحين للانخراط في صف المؤيدين لمرشح الحزب الوطني وإلا تأثرت حصصهم من الكيماويات والمبيدات، وشركات القطاع العام جندت إمكانات النقل لديها لشحن العمال والموظفين إلى مراكز الاقتراع حتى الجامعات أقامت معسكرات لطلابها في عطلة الصيف، بحيث تزأمن موعدها مع وقت الاقتراع، وقامت الحافلات بنقل ألوف الطلاب إلى مقار اللجان ليدلوا بأصواتهم لمرشح الحزب الوطني.. وهكذا. الخلاصة أن الأجواء التي سادت في الانتخابات السابقة لم تتغير في حقيقة الأمر هذه المرة، أما الذي تغير فكان إخراج المشهد الذي تمثل في فتح باب الترشيح لمنافسة الرئيس مبارك، بمواصفات معينة أغلقت الباب عمليا في وجوه المستقلين، وسمحت لقادة الأحزاب بالمشاركة مع إتاحة فرصة ثلاثة أسابيع فقط لهم للقيام بدعايتهم الانتخابية. وهي فترة محددة للغاية تعجيزية في حقيقة الأمر لا تمكن المرشح من مخاطبة الرأي العام في بلد تعداد سكانه تجاوز سبعين مليونا 32 مليون منهم مسجلون في جداول الانتخابات. من الأمور المتغيرة هذه المرة أيضا أن مرشح الحزب الوطني الرئيس مبارك قدم نفسه على هيئة جديدة، بدأ فيها اكثر شبابا كي يرد بشكل غير مباشر على الذين تحدثوا عن تقدمه في العمر (77 عاما) ثم انه أعلن برنامجا لحكمه في السنوات الست المقبلة، قدم فيه وعودا مهمة، أكثرها اقتصادية وخاطبت الفقراء ومتوسطي الدخل، بوعود ركزت على زيادة الرواتب وحل مشكلة البطالة وللترويج لبرنامجه، فإنه قام بعدة جولات في المدن الرئيسية بمصر، كما قام المرشحون الآخرون بجولات مماثلة. بدا واضحا في الحملة الانتخابية أن سقف الحوار ارتفع كثيرا في مصر، وأن الصحف المعارضة والمستقلة ذهبت بعيدا في نقد سياسة الرئيس مبارك ونفوذ عائلته، ولم تقصر في انتقاد الدائرة المحيطة به من المساعدين والأعوان، الأمر الذي وضعنا بازاء حالة ديمقراطية فريدة في نوعها، توفر للناس فيها هامش واسع من الحق في التعبير دون الحق في المشاركة. هذه المواصفات أعطت للحملة الانتخابية مذاقا مغايرا، كان له صداه القوي في الخارج، وهو أمر ليس مستغربا لأن الإعداد لإخراج الحملة، وتسويغ التمديد للرئيس مبارك، تطلب جهدا خاصا أريد به إقناع الرأي العام بأنه بعد 24 سنة في الحكم فإن الرئيس المصري لايزال قادرا على تحمل أعباء منصبه، ليس هذا فحسب وإنما هو أيضا ضرورة لمصر، وسوف يحل المشاكل العالقة التي استعصت طيلة السنوات التي خلت خلال فترته الرئاسية الخامسة واقتضى ذلك الجهد الخاص إيفاد بعض أركان حملة الرئيس إلى إنجلتراوالولاياتالمتحدة للتعرف على فنون الدعاية الانتخابية وأساليبها، ويذكر في هذا الصدد ان مدير الحملة وهو مدرس للعلوم السياسية قضى تسعة اشهر في الولاياتالمتحدة لدراسة الكيفية التي تدار بها الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونجرس. والأمر كذلك فربما كان من المبالغة القول بأن مصر شهدت انتخابات ديمقراطية حقيقية شارك فيها عشرة مرشحين وكان احتمال تداول السلطة فيها واردا شأن أي انتخابات ديمقراطية لان ذلك التداول لم يخطر على بال أحد حتى بين المرشحين المنافسين، والصحيح ان لمسات ديمقراطية أضفيت على الحملة لضمان التجديد للرئيس مبارك، بأسلوب مختلف وإخراج اكثر قبولا، وهو الإخراج الذي أثار انتباه المراقبين في الخارج، وصرف انتباه بعضهم عن جوهر الموضوع، المتمثل في استهداف تمرير التمديد لولاية خامسة، كي يظل وضع السلطة كما كان عليه طيلة ربع القرن المنصرم. انخفاض نسبة التصويت في الانتخابات جاء دليلا قويا على أن حملة التعبئة الإعلامية الواسعة بكل ما استصحبها من ضغوط لم تنجح في حث 77% من المقيدين في جداول الانتخابات على المشاركة إذ حسب النتائج الرسمية فإن 23% فقط هم الذين ذهبوا إلى مراكز الاقتراع، لاسباب عدة أهمها ان النتيجة معلومة سلفا وهو الأمر الذي يلغي جدوى الاقتراع في نظر كثيرين، وكان واضحا أن اغلب الذين أدلوا بأصواتهم من سكان القرى، لان سيطرة أجهزة الإدارة على القرى أقوى منها في المدن، ثم ان نسبة كبيرة منهم آثروا التصويت «للحكومة» لان غيابهم يعرضهم للغرامة المالية (100 جنيه) التي تقرضها اللوائح على من يتخلف عن أداء واجبه الانتخابي. وإذا كان الجديد في الإخراج سمة الأداء على القمة فإن جديد القاعدة كان واضحا في الإنتاج، وإن شيءت فقل ان جديد القمة كان في الشكل، في حين أن جديد القاعدة كان في المضمون، ذلك أن الحراك في الشارع المصري كان مختلفا هذه المرة، حيث لا ينكر أحد أن المجتمع المصري شهد ربما لأول مرة منذ نصف قرن حيوية مثيرة للانتباه تمثلت في تجاوز حاجز الصمت والخوف، واختراق الخطوط الحمراء التي حصنت السلطة ممثلة بأعلى رموزها ضد النقد والمحاسبة، وتنامي قوة منظمات المجتمع المدني التي أثبتت حضورا مهما في الساحة السياسية، ومن المفارقات التي برزت في تلك الأجواء أن أداء الأحزاب السياسية المعترف بها قانونيا (21 حزبا) بدا باهتا ومتهافتا باستثناء الحزب الوطني الحاكم بطبيعة الحال، في حين أن الجماعات السياسية التي لم يعترف بشرعيتها كانت الأكثر حضورا، وما قامت به حركة الأخوان المسلمين وحركة كفاية دليل على ذلك. وسواء كانت تلك التطورات راجعة إلى هامش الحرية الأوسع الذي توافر أثناء الحملة الانتخابية وقبلها لإضفاء قدر من الحيوية عليها، أو كان راجعا إلى الظروف الدولية المواتية، أو أنها كانت نتيجة لضغوط المجتمع الذي ضاقت نخبه بالركود السياسي الذي ساد مصر، واهتبلت فرصة الانتخابات الرئاسية لكي تعبر عن شوقها إلى التغيير. ايا كان السبب، فالشاهد ان حيوية جديدة دبت في الشارع المصري، لم يتح لها أن تغير شيئا على صعيد القمة لان تجديد الولاية للرئيس مبارك كان مفروغا منه ولم تكن هناك «معركة» انتخابية حقيقية ولكن ثمة إجماعا على أن الانتخابات التشريعية التي يفترض أن تجرى في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل يمكن أن تشهد معركة شرسة تختبر فيها وعود الإصلاح السياسي، ذلك أن الرئيس مبارك لم يكن يواجه منافسا حقيقيا على مقعد الرئاسة، لاسباب يطول شرحها إلا ان الحزب الوطني الحاكم يمكن منافسته وهزيمته في أية انتخابات عادية، إلا إذا تدخلت أجهزة الإدارة بقوة لصالحه، وهو ما يصعب ابتلاعه أو تمريره في مصر الآن. لقد برز حجم حركة الأخوان في الانتخابات الرئاسية حتى حرص أهم المرشحين على خطب ودهم، كما أفهم اصبحوا العنصر الذي يشار إليه في تحليل النتائج وتفسيرها، فمَنْ تراجعت أصواته التي نالها من المرشحين (رئيس الوفد مثلا) فسِّر ذلك بعزوف الأخوان عن تأييده، ومن ارتفعت أسهمه بصورة نسبية، قيل إن الأخوان صوتوا لحسابه. (كما حدث مع أيمن نور) وهذه الخلفية تسوغ لنا القول بأن صوت الأخوان سيكون له حسابه وتأثيره في الانتخابات المقبلة، التي سيخوضونها كمستقلين في الأغلب، وذلك يمثل تحديا آخر لأجهزة الإدارة لا يعرف الآن كيف يمكنهم التعامل معه. والأمر كذلك فالشاهد أن انتخابات الرئاسة لم تأت بجديد هذه المرة، ولكنها أطلقت طاقات وفتحت الباب لأشواق يمكن أن تقدم جديدا في الانتخابات التشريعية، بشرط واحد هو أن يتوافر لتلك الانتخابات قدر معقول من الحياد والنزاهة. ----- صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في 21 -9 -2005