أتعجب كل العجب من هذه السلبية الشديدة التي تغلف سلوك الإسلاميين بكل فصائلهم تجاه قضايا الإصلاح والتغيير ، وأستغرب من تعاطيهم المحبط مع الأحداث والمتغيرات الجارية في البلاد .. فهذا التيار الإسلامي الواسع والمتجذر في الشارع المصري ، لم نر منه حتى الآن تجاوبا يذكر مع الزخم الحاصل في المشهد الوطني .. فلا هو يشارك بجدية في الحراك الوطني المتصاعد ، ولا هو يساهم بفاعلية في المعركة الدائرة ضد الاستبداد والفساد . هذا التقاعس المخجل من الإسلاميين ينم- بكل أسف- عن ضحالة سياسية مروعة تنتشر في أوساط معظم الإسلاميين ، وجهل مطبق بأساليب الجهاد المدني (السلمي) ، وقصور شديد في فهم المتغيرات الإقليمية والدولية والوعي بالسنن الكونية في التغيير . أفهم أن الإسلاميين -كانوا وما زالوا- هم أكثر الجهات تضررا من الاستبداد ، وأعرف أنهم ذاقوا سنين طويلة من القمع والاعتقال والتعذيب ، وأدرك أنهم التيار الوحيد المطارد والمحاصر والممنوع من الشرعية السياسية ، وأعي أن قطاعات واسعة من المثقفين المحسوبين على المعارضة من يساريين وقوميين وليبراليين شاركوا النظام المصري في مؤامرة دنيئة لإقصاء التيار الإسلامي ، وعملوا على نبذه كأنه عدو مبين ووصمه بكل التهم زورا وبهتانا . ولكن كل هذا الظلم والضيم ، لا يبرر انزواء الإسلاميين وانسحابهم من المعركة الجارية . التيار الإسلامي في مصر يضم في إطاره فصائل واتجاهات فكرية متعددة ومتنوعة ، ويعتبر الإخوان المسلمون فصيل واحد من هذه الفصائل ، فهو ليس أكبرها ولا أكثرها عددا على خلاف الشائع ، غير انه أكثرها شهرة وتنظيما . وإذا استثنينا الإخوان فهناك ملايين من الإسلاميين في ربوع مصر ، لا تربطهم رابطة تنظيمية ، ولا تجمعهم حركة سياسية أو اجتماعية .. وهؤلاء الأفراد ينحصر جل نشاطهم في الذهاب إلى المساجد والزوايا الصغيرة لتأدية الصلوات وسماع بعض الدروس الدينية التي تقدم الوعظ وبعض أحكام فقه العبادات . هؤلاء الأفراد الملتزمون دينيا شأنهم شأن أغلب الناس في مصر ، يفتقرون بشدة إلى الثقافة السياسية والتوعية الوطنية . فهم غير مسيّسين ولا مشاركين في أحزاب أو فعاليات سياسية ، وهم غير معنيين بالشأن العام ولا يهتمون بمناقشة وتناول القضايا العامة في وطنهم .. ولذلك فهم بحاجة -كباقي المصريين- إلى توعية سياسية مكثفة تشرح لهم حقوقهم الوطنية والإنسانية من واقع مفهوم المواطنة ، وتحفزهم للمشاركة في حل مشاكل بلادهم ، وتشجعهم على الانخراط في الأحزاب السياسية كعناصر وطنية فاعلة . ثمة وجهة نظر تقول: ان أجهزة الأمن التي استمرت في قمع الإسلاميين سنوات طويلة ، مرتاحة جدا لابتعادهم عن السياسة ، ولن تسمح لهم بالعمل السياسي بحرية ، كما تسمح للآخرين من التيارات الأخرى .. لكن الرد على هذا الكلام بسيط واضح ، فالمشكلة ليست مع رجال الأمن ، فهم في النهاية ضباط ينفذون الأوامر ، بل المشكلة مع رجال السياسة الذين يأمرون بالقمع وانتهاك الحريات ، وهناك أوامر سيادية عليا لأجهزة الأمن تحظر على الإسلاميين الاشتغال بالسياسة ، والأمن يجتهد من جانبه في تنفيذ الأوامر (العليا) بحذافيرها حتى لو انتقصت من حقوق الناس . والتبريرات والتفسيرات جاهزة لدى رجل السياسة في جميع الأحوال (!!) . ولكن إذا اختار الإسلاميون العمل السياسي طريقا للإصلاح والتغيير ، بمعنى السعي بوسائل ديمقراطية لتداول السلطة سلميا . فان القمع الأمني بحقهم يصبح جورا وطغيانا ، ويكون من واجبهم في هذه الحالة استخدام أساليب نضال مدنية (سلمية) في مقاومة هذا القمع وفضحه داخليا وخارجيا ، كالقيام بتظاهرات وتنظيم اضرابات بالاشتراك مع القوى السياسية والوطنية الأخرى ، وكالاتصال بجمعيات حقوق الإنسان المحلية والدولية ، والمساهمة بقوة في فعاليات المجتمع المدني . وهذا هو الجهاد الحقيقي الذي يجب أن يقوم به الناس (ومنهم الإسلاميون) هذه الأيام . على الإسلاميين في المرحلة القادمة أن يجربوا العمل السياسي (الشرعي) والانخراط في الأحزاب ، وتعلم أساليب النضال المدني في مقاومة الفساد والاستبداد والقمع ، وليس عيبا ان يتعلموا فنون هذا النضال من اليساريين أو القوميين ، فالجميع يشكلون الآن حركة وطنية واحدة ضد الاستبداد والفساد ، وهذا تحديدا ما رسخته مؤخرا حركة كفاية في وجدان النخبة المصرية ، وبقى أن ينتقل إلى وجدان الشعب المصري بأكمله في المرحلة القادمة ، وهو الدور الذي يمكن للإسلاميين ان يلعبوه بامتياز من واقع شعبيتهم الجارفة في الشارع . ولكن بشرط أن يدركوا أن المعايير السياسية لا تقاس بالقيم الدينية من حلال وحرام ، ولكنها تقاس بمعايير المصلحة والموائمة والموازنة . وأن يتعلموا كيفية التواصل مع الآخر المختلف معهم في الدين والفكر بكل اعتدال ووسطية . وعليهم قبل هذا وذاك أن يتخلصوا نهائيا من التيارات الهدامة التي تتخذ العنف سبيلا للتغيير ، فكم ارتكبت هذه التيارات من حماقات اكتوى الوطن بنارها ودفع الإسلاميون وحدهم ثمنا باهظا من جرائها . [email protected]